المقالات

بين يدي النجاشي

بقلم :عبدالعزيز قاسم :

وإذ كنت متابعا بحرص اتفاق المصالحة الوطنية لإخوتنا الأحبة في السودان، والتصفيق الطويل الذي ناله رئيس وزراء أثيوبيا “آبي أحمد” لدوره المحوري في تلك المصالحة التي أسعدتنا، انثالت الذكريات عزيزة لزيارتي للحبشة قبل 11 عاما، وومضت صورة لي وأنا داخل مقبرة الإمام الصالح النجاشي، حيث زرته في العام 2008م، سطرت مشاعري وما رأيت في تلك الرحلة العجيبة بأدغال الحبشة، في كتابي الجديد “الطريق إلى بلاد النجاشي أصحمة”، أسرد لكم في هذه المقالة بعض أجواء وقوفي أمام النجاشي العظيم عليه السلام.
وأنا في طريقي إلى قرية النجاشي في تلك الأزمنة؛ لاحظت أن الأبنية من حجارة صلداء، وأخبرني مرافقي هناك الحاج سلطان أن معظم بنايات إقليم (تجراي) هي من الحجارة وليست من الطوب، وفعلاً على طول الطريق رأيت مجموعة من العمال صغار السن، يعملون على تقطيع الصخور، وأتذكر موقفاً حرجاً لي هناك معهم، إذ طلبت من سائق السيارة التوقف لأخذ صورة لهؤلاء الصبية، وإذا بأحدهم بعدما انتهيت من تصويره يقول: “ألا تعطنا شيئاً من الأجر، جرّاء تصويرك لنا !!” فأسقط في يدي لأن البرذات -الفئات الصغيرة من عملتهم- انتهت مني ( الريال السعودي = 2.5 بِرّ أثيوبي في ذلك الوقت)، ولا أملك سوى فئات كبيرة كالمائة ريال، فشيّعتهم بابتسامة وكلمات اعتذار لم يفهموها، وغادرتهم وأنا أحمّر خجلاً منهم، فمن عادتي نفح أمثالهم بعض النقود، كي نترك أثراً ايجابياً في نفوسهم، وهو يعني الكثير بالنسبة لهم، ولكن أسقط في يدي للأسف.
عندما وصلنا المدينة الصغيرة (وقرو)؛ رجاني مرافقي الشيخ سلطان أمان أن نتوقف لأن برأسه صداعاً لعدم شرب ال (ماكياتو)، وهذا الشراب عبارة عن شاي مخلوط بنوع من القهوة، لا يصبر عليه كثير من أهل (الحبشة)، بسبب اعتيادهم اليومي عليه، كما نفعل نحن مع الشاي في (الحجاز)، والقهوة في منطقة (نجد)، فلم أملك بدّاً من الوقوف، وطعمت ال (ماكياتو) الذي كان أقرب لقهوة نسكافيه بالحليب، تماماً كما عند إخوتنا الهنود الذين لا يصبرون على الشاي بالحليب. القوم هنا لهم عشق كبير للقهوة، ويتحقق فيهم مزاج الشاعر المهجري إيليا أبوماضي عندما وصفها:

كأن حبوبها خضراً وصفراً
فصوصُ زمرّدٍ وشذورُ تبرِ

كأن الجنَّ قد نفثتْ رؤاها
على أوراقها في ضوءِ فجرِ

جلوتُ بها من الأكدارِ ذهني
كما أني غسلتُ همومَ صدري

وماهي قهوةٌ تُطهى وتُحسى
ولكنْ نفحةٌ من روحِ حرِّ

وطوال الطريق إلى القرية التاريخية -الذي ذكرني بطريق جبل (الهدا)- سرنا عبر خط متعرّج صعوداً، فيما الخضرة الدائمة والممتدة على جانبي الطريق، وجدتني مع التأريخ أستحضره، مسترجعاً مواقفهم، ولكأني أشاهدهم -ذلك النفر من الصحابة المهاجرين- أمامي عياناً، يذرعون هذه الطريق، كم أكبرت أولئك الأفذاذ الذين حافظوا على دينهم، برغم كل ما تعرضوا له!!
ووقتما وصلت إلى القرية التي فيها قبر النجاشي “أصحمة” عليه السلام، رأيت أبنيةً غايةً في القدم، وشعرتُ كأنني أعيش تلك الحقبة التاريخية القديمة. سبحان الله، تتغشاك –والهدوء والصمت حولك- سكينة من نوع خاص!! لكأنك تعود إلى ذلك التأريخ قبل 1400 عام.
لا أحد لاقيناه فالمكان كان خلواً، وما ثمّ إلا الأشجار الطويلة بحفيف أوراقها، لتضيف هالة وإيقاعاً على المكان، وشعرتُ بالرهبة فعلاً عندما ترجّلنا من السيارة، ومكثنا لوهلة نرسل أبصارنا -بصمتٍ مهيب- في نواحي المكان، ولمحنا على بُعد مسجداً حديثاً نوعا ما، بناه رجل الأعمال المحسن محمد حسين العمودي -جزاه الله خيرا- بما أخبرني مرافقي، وما زاد المشهد علينا درامية؛ ثلاثة من حرّاس المقبرة أتونا، بلحاهم البيضاء، وظهورهم المقوّسة، والسنون الطويلة تركت آثاراً على صفحات وجوههم كأخاديد. كانوا كبار سنّ يعملون في هذه المقبرة كحرّاسٍ عليها، فأضافوا بهيئتهم السمراء الكالحة ولحاهم البِيض منظراً درامياً آخر علينا، وما لبثوا أن فتحوا لنا باب المقبرة لزيارة هذا النجاشي العظيم، دخلت وأنا أردّد:
ومن وَعي التاريخَ في صَدرهِ
أضافَ أعماراً إلى عُمرهِ

عندما دلفتُ إلى داخل المكان عبر البوابة القديمة؛ وجدت بضعة قبور بالفناء الخارجي في الهواء الطلق. أحدها كان مميزاً، وقال لي حرّاس المقبرة بأنها لصحابي اسمه: “عدي بن عادل العدوي القرشي”، كان مع أولئك المهاجرين الأوائل ومات هنا يرحمه الله.
قمت بالسلام عليه، والدعاء له بما تعلمته بأصول المدرسة السلفية، وعندما ذهبنا للضريح الكبير، وفتح لنا بابه الحرّاس؛ وجدت أمامي ثلاثة عشر قبراً. القبر الأول للملك النجاشي “أصحمة”، وكان مميّزاً وكبيراً، في أقصى يسار الغرفة المستطيلة الطويلة، واصطف البقية من بعده إلى آخر الغرفة، وقد كانت قبوراً لصحابة مهاجرين توفوا هناك، وقد غطت القبور بألحفة خضراء وحمراء، وزيّن الضريح كذلك بالألحفة.
أخذتني رعشة اهتزّ لها جسمي من هيبة المكان، وانبعث التأريخ يملأ الأجواء أمامي، وتوقّف الزمن فعلاً ولم أعد أشعر به، ولكأن شريطاً سينمائياً-يمرّ أمام عيني- يَعرض مشاهد من مواقف هذا الملك الصالح وشهامته، ونصرته لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الفترة القاسية من تاريخ المسلمين، فلم أملك سوى ترديد دعاء انبعث من أعماق أعماقي أن: “جزاك الله خيرا على ما قدمت للإسلام أيها الملك الصالح”.
ذهبت في مناجاة حرّى للرجل في إحدى اللحظات النوادر التي مرّت عليّ في حياتي، أدعو له وما قدّم للصحابة، وأسأل له الجنّة ومرافقة من نصرهم، والحقيقة أنني كنت أمتثل تلك الحقبة تماماً وأنا إزاءه، ودمعت عيناي رغماً، فلا أروع من حكايات التأريخ التي قرأتها واختزنتها ذاكرتك، وإذا بها تراها أمامك تمرّ في لحظات تجلّ نادرة، تحلق فيها الروح إلى سماوات من العبرة والعظة والتذكير بأيام الله، واستحضار الماضي ليكون ماثلاً أمام عينيك، وقد غبت عن الزمان والمكان محلقاً في تلكم العوالم التي تملأ روحك شخوصُ وأبطال من يتراءوا لك.
كانت تلك اللحظات الخالدات من أقوى ما سكن نفسي برحلتي تلك، بنفس الطريقة التي يأتي بها ذلك الكهل الأندونيسي أو السنغالي من أقصى العالم، ممضياً جلّ عمره يدخّر النقود كي يؤدي فريضة الحج أو العمرة، وتعتريه المشاعر الشفيفة والإيمانية، وهو يقف لأول مرة أمام الكعبة المهيبة، أو يسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أمام قبره.
ودّعنا النجاشي العظيم، وعدت بنفسية ملأى بالإيمان والسكينة والراحة والسعادة، ذلك أني سأنقل ما رأيت لقرائي، ووفقني الله للسلام على هذا الملك في أول زيارة لأرضه الخضراء، وهمهمت ما بيني وبين نفسي بمقولة سقراط الحكيم:

“جميع أرواح البشر خالدة، لكن أرواح الصالحين خالدة ومباركة”..

مبادروة ملتزمون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى