الإعلامي عبدالعزيز قاسم

“اللي يشرب من موية النيل لازم يرجع له”

بقلم: عبدالعزيز قاسم
إعلامي وكاتب صحفي

مقالتي تبحر عن محاولات المصريين عبر التاريخ لاكتشاف منابع نهر النيل، من وحي رؤيتي لشلالات “تيسيسات” في هضبة الحبشة، ولنحمد الله على ما وصلت له الحضارة البشرية من علم..

“مصر هي النيل، والنيل هو مصر”. هيرودوت

عندما مَخرَ بنا القارب بحيرة “تانا” العظيمة في إثيوبيا؛ أدلقتُ يدي تجاه مياهه، ورحت أعبّ من الماء الذي انساب عذوبةً في فمي، فهو في النهاية مياه أمطار، والبحيرة التي أحدثكم هي منبع النيل الأزرق، والتي تخاصم شقيقتنا مصر إثيوبيا عليها اليوم بسبب بناء السدود.

مقالتي التي اقتطعتها من كتابي الجديد “الطريق إلى بلاد النجاشي أصحمة”، تتحدث في جزأين عن نهر النيل، هذا النهر الخالد الذي يهيم به أشقاؤنا المصريين، ويدلّون به علينا وهم يردّدون على أسماعنا بكل ثقة: “اللي يشرب من موية النيل لازم يرجع له”، وقد كتاب شعراؤهم عبر التأريخ هيامهم به، وستدهشون –بما حصل لي- من محاولات اكتشاف منابعه من أيام الفراعنة، والحملات التي جُهّزت لهذا الغرض، ولم يعرف العالم منبعه إلا في العام 1858 فقط، أي قبل 160 عاماً تقريباً، وتذهلون من المحاولات المتكررة التي بذلها –عبثاً- المصريون لاكتشاف منبعه عبر آلاف السنين.

أعود بكم لبحيرة “تانا” ونحن –مرافقي الشيخ سلطان أمان وأنا وابني أسامة- نمخرُ فيها، ولنترجل من القارب، ونقف في تلة وأمامنا شلالات “تيسيسات” العظيمة التي تهدر بصوت مدوٍّ تملأ الفضاء، فهذا الماء الذي يسّاقط أمامنا في تلكم الشلالات البديعة سيشكل نسبة (80-85%) من المياه المغذية لنهر النيل، ولكن هذه المياه تصل إليه في الصيف فقط بعد الأمطار الموسمية على هضبة الحبشة، بينما لا يشكل في باقي أيام العام نسبة كبيرة حيث تكون المياه فيه ضعيفة أو جافة تقريبا.

“النيل الأزرق” وهذا اسمه في السودان، سيستمرّ حاملاً اسمه السوداني في مسار طوله 1,400 كم حتى يلتقي بالفرع الآخر –النيل الأبيض– ليشكّلا معاً ما يعرف باسم “النيل” منذ هذه النقطة وحتى المصبّ في البحر الأبيض المتوسط.
ما أثارني هو لون مياه النيل الأزرق حيث هو أقرب للون المتربِّ، وقال لنا مرافقنا الشيخ سلطان أمان بأن السبب هو أنه يحمل الطمي الذي هو أخصب التربة للزراعة، وقد أخذتُ الماء في يدي فوجدته صافياً تماماً، وطعمتُ منه بضع قطرات؛ فألفيته عذباً مستساغاً لا كما يظهر للرائي الذي تنفر نفسه من لونه، عرفت حينها الوصف الدقيق لهذا الماء من أمير الشعراء أحمد شوقي وهو يقول:

النِّيلُ العَذْبُ هو الكوْثرْ
والجنة شاطئه الأخضرْ

ريَّانُ الصَّفحةِ والمنظرْ
ما أبهى الخلدَ وما أنضرْ!

ينصبُّ كتلٍّ منهارِ
ويضجُّ فتحسبه يزأرْ

حبشيُّ اللَّونِ كجيرته
من منبعه وبحيرته

صَبَغَ الشَّطَّيْنِ بسُمْرَته
لوناً كالمسكِ وكالعنبرِ

نهر النيل كما أخبر نبينا -صلى الله عليه وسلم- هو نهرٌ من أنهار الجنة، والاسم مشتقٌ من اللغة اليونانية، وهي كلمة “نيلوس” التي تعني “وادي النهر”، وطوله حوالى 6700 كم من منبعه، وهو أطول نهر في العالم، يليه نهر (الأمازون). نهر النيل فضلاً عن بحيرة “تانا” التي أحدثكم منها؛ له مصدرٌ آخر هو بحيرة “فيكتوريا” تقع في ضفافها دول أوغندا وتنزانيا وكينيا.

من أعجب ما قرأت؛ أن هذا النهر ظلّ سلاحاً بيد ملوك الحبشة، يثيرون قضية حبس مائه عن مصر من فترات زمنية طويلة، وحتى حكام السودان، كانوا يلمّحون إلى ذلك عند الأزمات السياسية، فقصة الابتزاز للمصريين قديمة قِدمَ النهر.

اكتشاف منبع نهر النيل كان حلماً للمصريين القدامى الذين بذلوا جهدهم لمعرفة مصدر حياتهم. كنت قرأت عن تلكم المحاولات من أزمنة الفراعنة والإغريق وكل من حكم مصر من المماليك والعثمانيين وصولاً لمحمد علي باشا، ومدى تحرّق هذا الألباني لمعرفة المنبع كي يسيطر عليه، لدرجة إرساله ثلاث حملات شهيرة لهذا الغرض. لكنني احتجت العودة للمراجع، والقراءة في هذا الموضوع بكثير من التنقيب والدقة، رأيت من المناسب طرحه هنا، طالما راودتني -وأنا أتيه أنساً وأتمخطر استمتاعاً على بحيرة “تانا”- تلك المحاولات التي استغرقت آلاف السنوات، وظلت لغزاً دارت حوله الأساطير التي اخترعها المؤرخون، وأخذوها من الحكايات الشعبية التي تُدولت وقتها، فيما لم يُكشف سرّ ومنبع النهر عبر التأريخ إلا قبل قرن ونصف تقريباً، وستعرفون سبب زهوي عندما تقرؤون ما يذهلكم عن محاولات الحكام الذين مرّوا على مصر لمعرفة منبع النهر الخالد.

كتب المؤرخون القدامى عن منبع النيل، وكلها كانت أساطير بعضها كان ساذجاً لدرجة الضحك، فهناك من قال أنها ثلوج على قمم الجبال تذوب وتنداح، ومنهم من قال بأنه ينبع من باطن سلسلة جبال في إفريقيا. فيما أورد “جلال الدين المحلي” (1389 – 1459) في كتابه (مبدأ النيل على التحرير)، قال فيه بأن: “أحد حكام مصر أرسل عدة رجال إلى مجرى النيل للوقوف على منبعه، فساروا حتى انتهوا إلى جبلٍ عالٍ، والماء ينزل من أعلاه، وله دويّ لا يكاد بسببه يسمع أحدهم كلام صاحبه، ثم أصعدوا واحداً منهم إلى أعلى الجبل فلما وصل رقص وصفق وضحك، ثم مضى ولم يعد، ولم يَعلم أصحابُه ما شأنه. ثم أصعدوا ثانياً ففعل مثل الأول، ثم ثالثاً، فقال: اربطوا في وسطي حبلاً فإذا وصلت وفعلت مثل ما فعَلا فاجذبوني، فلما صار في أعلى الجبل فعل كفعلهما، فجذبوه إليهم، فقيل إنه خَرُس ولم يرد جواباً، ومات من ساعته، فرجع القوم ولم يعلموا من الأمر شيئاً”. هذه الأسطورة واحدة من أساطير كثيرة رواها مؤرخون عرب ومسلمون عن النيل بعد فتح مصر.

“هيرودوت” المؤرخ الإغريقي الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد (حوالي 484 ق.م – 425 ق.م) كانت له مقولة مشهورة، والتي صدرت بها مقالتي: “مصر هي النيل، والنيل هو مصر”.

لذلك أدرك فراعنة مصر منذ آلاف السنين أهمية استكشاف منابع النيل ومجاهل القارة الإفريقية، لأن من يستولي عليه؛ سيتحكم بالتأكيد في مصر ويؤثر عليها.

ذكر الدكتور عبدالعليم خلاف في كتابه (مصر وإفريقيا) أن الآثار والنقوش التي تمّ كشفها على جدران المعابد، تشي بأن هناك رحلات كثيرة قام بها “زوسر” و”سنفرو” و”تحتمس الأول” وغيرهم إلى مناطق التقاء النيل الأبيض بالنيل الأزرق.

يذكر أستاذ التاريخ الإسلامي د. عمرو منير عبد العزيز أن محاولات المصريين لكشف نهر النيل استمرت على مدار العصور حتى مجيء اليونانيين الذين استقصوا عن منابعه، وكان أشهرهم “بطليموس” الجغرافي، ثم جاءت محاولات العرب في القرون الأولى للهجرة والعصور الوسطى. ويروي أن المؤرخين والجغرافيين العرب نقلوا كتاب “بطليموس” عن النيل إلى لغتهم وزادوا عليه أشياء لم تكن صحيحة، وشابتها الخرافات والأساطير، بدليل اتفاقهم على أن النهر ينبع من جبال القمر خلف خط الاستواء، من عشر عيون في الأرض، تجتمع في عشرة روافد، تجتمع كل خمسة منها؛ لتصب في بحيرة، ثم تخرج ستة أنهار من البحيرتين؛ لتجتمع مرة أخرى في بحيرة واحدة، حيث يخرج النيل.

د. عمرو منير عبد العزيز ذكر أن الكتابات التاريخية العربية؛ استوعبت القصص والأساطير الشعبية الإسلامية، ومزجتها بالرواسب الأسطورية الفرعونية والقبطية إلى جانب بعض قصص الإسرائيليات؛ لتصب كلها في مجرى واحد غايته في المخيلة الشعبية اكتشاف منابع النيل، التي ظلت لغزاً محيراً آلاف السنين، فخرجت روايات ملأى بالجن والشياطين والعفاريت والوديان المخيفة والمخلوقات العجيبة. فقد كتب جلال الدين السيوطي (1445 – 1505) في كتابه “حسن المحاضرة” أن “ملكاً من ملوك مصر الأوائل جهّز أناساً للوقوف على أول النيل فانتهوا إلى جبل من نحاس براقة كالبلّور، فلما طلعت عليهم الشمس، انعكست عليهم أشعتها فأحرقتهم”.

العلم يبدّد كثيرا من الخرافات والخزعبلات، وتوقفت وأنا أقرأ في الأقوال التي ساقها جغرافيو ذلك العصر، وما ملكت سوى حمد الله تعالى على نعمة العلم والحضارة التي وصلت لها البشرية، إذا الواحد منا اليوم، يمسك بجواله، ويفتح على أدق نقطة في الكرة الأرضية، عبر “خرائط قوقل”، ويراها للحظتها وما يحصل فيها، وأولئك القدماء –بما ستقرؤون في الجزء الثاني من مقالتي- فقدوا الرجال تلو الرجال، وهم يحاولون عبثا اكتشاف منبع النيل الخالد.

هل صحيح ما يدلّ به إخوتنا وأحبتنا المصريون من أننا سنعود للنيل، إن شربنا ماءه؟ لديّ أصدقاء لا يصبرون عن مصر الغالية، ويهيمون بها، ويسافرون كل شهر لها، وحقّ لهم ذلك.

مَنْ مثل مصر الحضارة والنيل والتأريخ والعلم؟!

مبادروة ملتزمون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى