الإعلامي عبدالعزيز قاسم

*بين مضغي “القات” وأكل اللحم النيّئ*

بقلم: عبد العزيز قاسم
إعلامي وكاتب صحفي

ما الذي ستصنعه عندما يودّ أن يُكرمك مضيفك بما لا تحب؟

الذين يعشقون السفر، ويذهبون لأصقاع بعيدة، ثقافتها تختلف كثيراً عن ثقافتنا؛ لا بدّ وأنهم يتعرّضون -لما تعرّضت له- من بعض الحرج، خصوصاً عند أوقات الضيافة، وقتما لا تتلاءم ذائقتنا وما اعتدنا عليه من الطعام بالخصوص، وذائقة القوم هناك، وبالتأكيد تختلف ردّات أفعالنا حيال ذلك.

أتذكّر في رحلتي للحبشة أنني تعرضت لمواقف عديدة من هذا الحرج، على الرغم أني رجلٌ مراعٍ جداً لمن ألتقي، وأتنازل له مقابل كسب قلبه وودّه، فهو في النهاية مُضيفٌ متكرّم، إلا أنه عندما عرض القوم عليّ القات رفضت تماماً، وبلا أيّ تردّد، فهذه النبتة مشهورة جداً هناك، بل ومن أجود الأصناف على الإطلاق، وتباع بسعر رخيص، فلا غرو أنني التقيت بعض السعوديين هناك، من بعض مناطق المملكة من الذين يشيع عندهم مضغ القات.

المضحك أنني بعد تمنعي الكامل في الحبشة عن مضغها، وجدت صبياً يمانياً في منطقة “فيفا” بالجنوب بعدها بعامين، وضحك مرافقي وقال مستفزاً: جرّبها، فاستبدّ بي فضول الإعلامي، ولُكْتُها في فمي محاولاً بلعها، فإذا طعمها كالجرجير، ولكنها أشدّ مرارة، فلفظتها من فوري، وأنا أحمد الله على العافية، مستحضراً منظري بنصف الدائرة التي تظهر على خدّ الماضغ لها، لأقلع عن الفكرة تماماً، وأترك صديقي شامتاً بي وهو يقول: نبتة القات تخزّن، لا تؤكل بما فعلت.

يرجّح العالم الروسي الشهير “فافيلوف” أن تكون الحبشة هي المنشأ الأول لشجرة القات، ودخلت بعدها اليمن. وللقات مجالس خاصة يجتمع فيها المتعاطون في ساعات معينة بعد الظهيرة أو المساء، وينشدون فيها الأشعار، حتى أن شاعرهم العاشق لها، قال في وصفها:

*زمّرداً يقطفُ الأصحابُ أم قاتا؟!*
*يصفو بهِ العيشُ أحياناً وأوقاتا*

*يا عاذلي عن حصولِ القاتِ مُتْ كمداً*
*لا نتركَ القاتَ أحياءً وأمواتا*

وبالتأكيد أن هذه النبتة الخضراء اختلف في حكمها العلماء الشرعيون، فهناك من يميلون لتحريمها بسبب ما تسبّبه من فتور وكسل وضعف جنسي، بينما البعض يُكرّهها فقط، ومعظم علماء اليمن يجيزونها، بل منهم من يتعاطاها.

لنترك القات، ولآخذكم إلى عادة غريبة وجدتها في أهل (الحبشة)، فالقوم يأكلون اللحم النيّئ، وهي شائعة لديهم، وسألت عنها أحد الباحثين الإثيوبيين وهو الأستاذ عبدالفتاح محمد، فأجابني والحبور يكسوه –أصفُ بدقة- وقد تحلّبت أشداقه بمجرد أن ذكرت له ذلك، وقال إنها من ألذ الوجبات التي يحرص كثير من جهات (الحبشة) عليها، ومضى يسترسل – في انتشاء لا حدود له – كيف هي طقوس هذه الوجبة التي يتجمّع لها مجموعة من الأهالي، حيث يقومون بذبح البقرة، وينهشون في لحمها ويقطّعون اللحم إلى كرات صغيرة، ويلتهمونها نيّئة ممزوجة بدمها، وهم يتصايحون فرحاً، حتى يتركوا البقرة عظاماً فقط..

وقد علّق كثيرون من الرحالة الأوروبيين عن هذه العادة العجيبة لدى أهل (الحبشة)، وكيف أنها سبب لانتشار مرض “الدودة الشريطية” بينهم؟.

هذه الأكلة تدعى عندهم: “القُرط”، حيث كان ملوك (إثيوبيا) وأباطرتها يتناولونها في كافة المناسبات، فهذه اللحوم النيّئة يُضاف إليها أنواع من البهارات والفلفل الأحمر والمخللات، وتقدّم في حفلات الزواج بالخصوص، حيث يقوم العروسان بتقطيع اللحم النيّئ بدلاً من التورتة التي نعرفها – يا لاختلاف الثقافات!!- ويهجم بعد العروسين الضيوفُ لالتهام ذلك اللحم النيّئ ، وكنت أتخيل هذا – والرجل يحدثني – ولا أستطيع تصوّر هذا المنظر، وكأنه فيلم رعب متوحّش من أفلام “هوليود” الخيالية، بيد أن هذا للأسف هو الواقع، حيث يُفاخر بها الأثيوبيون كإرث وثقافة ضاربتين في الجذور.

أكلة “القُرط” لها مكانة كثقافة أثيوبية لا يُمكن أن تخلو المائدة الأثيوبية منها، ويأكلها أتباع جميع الأديان، بما فيهم المسلمون، ولا تقتصر على فئة معينة، وتدعى عندهم وجبة الشجعان والفرسان، يتفاخرون بأكلها.
حاججني محدّثي عندما أبديت شيئا من التقزّز، الذي خرج رغم إرادتي، وإلا فمن العيب إظهار ذلك احتراماً لثقافتهم؛ فثمة شعوب أوربية تأكل السمك والسلمون نيّئاً، وهو جزء من تراثهم وثقافتهم؛ فألجمني وتفهّمت، وخفّ ما بي من تقزّز وعدم قبول.

الرجل تشجّع عندما رأى تعابير وجهي المنبسطة، وبعدما أعطاني ذلك الباحث وصفاً تفصيلياً لهذه العادة في أكل اللحم النيّئ بدعاية كبيرة؛ ألحّ عليّ في تجربتها، وكنا بجانب السوق الشعبي، فامتقع لوني ثانية، واكتفيت ببلع ريقي، مزدرداً العافية، سائلاً الله السلامة، ومضيت عنه لا ألوي، ضارباً بآداب اللياقة والمراعاة، مستحضراً مقولة الروائي الروسي العالمي “أنطون تشيخوف”: “نحن لا نعيش لنأكل، بل لنعرف ما هو إحساس تناول الطعام”، ولعمرو الله مع كرات اللحم النيّئة تلك، لا أدري أية أحاسيس سأشعر بها!! ربما وأنا في المستشفى طبعاً.

من أجمل الانطباع الذي تركته الحبشة في نفسي: اخضرارها وأنهارها وأمطارها، فالوقت الذي ذهبت فيه لها، كان في شهر أغسطس، شهر القيظ الأشهر عندنا، بينما هو موسم أمطار عندهم، لأن الحرارة تزداد بأشهر الصيف على المحيط الهندي، لتتجه السحب إلى جهة القرن الأفريقي وبلاد (الحبشة)، وتتساقط الأمطار الغزيرة من شهر يونيو إلى منتصف سبتمبر، لذلك فإن أفضل وقت لزيارة هذه البلاد هي هذه الأشهر الثلاثة. وفعلاً فأينما صوّبت نظرك طيلة الطريق من المطار إلى المدينة؛ ما ثمّ إلا اللون الأخضر الذي كسا تلك الأراضي، مع زخّات المطر الرائعة التي نفرح بها نحن السعوديين فرح الأطفال.

أتذكر جلستي الرائقة من على شرفتي العالية في فندق بالعاصمة “أديس أبابا”، كنت أراقب هطول المطر، وإذا بالشمس أمامي تبزغ وهي تطفل للمغيب، فيما السحب الدكناء التي روت الأرض تبتعد، لتفرج عن لوحة في السماء بديعة، منظر أخاذ لا أنساه أبداً، وأنا بذلك المزاج النفسي العالي، الأفق مصطبغٌ بلون ذهبي ساحر، تشتد حمرته رويدا رويدا، ليحضر ابن سهل الأندلسي ويصف حالتي تلك:

*انظُر إلى لَونِ الأصيلِ كأنّه*
*لا شَكَّ لونُ مُودِّعٍ لفِراقِ*

*والشمسُ من شفقِ المغيبِ كأنها*
*قد خمشتْ خدّاً من الإشفاقِ*

*لاقتْ بحُمرتها الخليجَ فألّفا*
*خجلَ الصبا ومدامعَ العشاقِ*

*سقَطَتْ أوانَ غُروبِها محمرَّةً*
*كالكأسِ خرّتْ من أناملِ ساقِ*

مبادروة ملتزمون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى