الإعلامي عبدالعزيز قاسمشريط الاخبار

دردشة مع حاخام اليهود في بخارى

بقلم: عبدالعزيز قاسم
اعلامي وكاتب سعودي

“بخارى منجم المعرفة” جلال الدين الرومي.

تقف متأملاً في استدارة هذا السور الهائل الكبير الذي يحيط بقصر الحكم القديم في مدينة بخارى، وتتساءل بقرارة نفسك، وأنت ممسكٌ بخطام جمل ذي سنامين، يغري به صاحبه السيّاح بالتصوير، يُكمل لك مشهد التاريخ أمامك: ماذا لو نطقت الحجارة الصلداء هاته، وحكت عن أولئك الذين وقفوا في مكانك هذا الذي تطالع منه المدينة التاريخية عبر 2500 عام، هو عمر السور؟!

تجدني وأنا أعطي ذلك السور ظهري، في زيارتي الحالية لبخارى، متجهاً لبوابة المدينة، أردّد بعض أبيات تلك اليتيمة الخالدة، عن كرور الأيام وتبدّل الأزمنة:

هَل بِالطُلولِ لِسائِلٍ رَدُّ
أَم هَل لَها بِتَكَلُّمٍ عَهدُ

أبلى الجَديدُ جَديدَ مَعهَدِها
فَكَأَنَّما هو رَيطَةٌ جُردُ

مِن طولِ ما تَبكي الغيومُ عَلى
عَرَصاتِها وَيُقَهقِهُ الرَعدُ

وَتُلِثُّ سارِيَةٌ وَغادِيَةٌ
وَيَكُرُّ نَحسٌ خَلفَهُ سَعدُ

تدخل عبر بوابة المدينة القديمة، وينبّهك المرشد المحلي بأن الاسكندر الأكبر وقتيبة بن مسلم وجنكيز خان وتيمورلنك وهولاكو وأباطرة وقادة عظام خلّدوا أسماءهم في التأريخ؛ عبَروا قبلك هذه البوابة الصغيرة لمدينة بخارى القديمة التي تدلف الآن؛ لتستولي عليك مشاعر لا تدري كنهها، ولكأن شخوص كل أولئكم تطوف حولك، سيما وأن روح تلكم العصور ظاهرة عبر تأريخية السور والبوابة وكل ما هو داخل المدينة القديمة.

بكل تباهٍ وفخر، يردّد المرشد على مسمعي: “هنا ولد محمد بن اسماعيل البخاري إمام الحديث، وهنا ولد الشيخ الرئيس أبو علي ابن سينا، وستجد أمامك قبر الامام النقشبندي. هنا –مشيراً بإصبعه- درس حيناً من الدهر وتعلّم: الخوارزمي والبيروني وأولغ بيك العالم الفلكي، وبقية علماء نهلوا من العلم إبّان الطلب، هذه المدينة التي تدخلها موطن المعرفة القديم في العالم”.

نشأت مدينة بخارى قبل الإسلام بقرون بعيدة، وكان اسمها باللغة الصينية “نومي”، أما عن سبب تسميتها باسم “بخارى”، فيرجع إلى الكلمة التركية المغولية “بخر”، والتي تعني الصومعة أو الدير، وقد كان بالمدينة معبداً بوذياً كبيراً قبل دخولها في الإسلام، ويحتمل أنه السبب في تسميتها باسم “بخارى”. أما الأصح والمتداول هناك بين أهل المدينة وقتما سآءلتهم، فقد قيل إنها مشتقة من كلمة “بخار” وتعني العلم الكثير، وسُميت بهذا الاسم لكثرة علمائها.

شتان بين أن تأتي زائراً مستمتعاً، تقضي أيام عطلة، تجول في أزقة بخارى أو بساتينها اليانعة وأسواقها المتعددة أو مطاعمها الشهية ومتاحفها المدهشة، وبين أن تأتي كإعلامي تروم تأليف كتاب عن رحلتك، ففي حالتك الثانية تحتاج أن تبحث عن أشياء وأماكن جديدة لم يسمع بها من يقرأ لك، وأن تجهد في التنقيب عن غرائب تكتب عنها، لتطلع عليها متابعيك، وتظل في حالة رصد دقيقة لكل ملامح المدينة، ولم تخيب ظني بخارى التي يعرفها مسلمو العالم، بسبب عالمها الأشهر أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، إمام الحديث المعروف، فقد ملأتني دهشة، وأنا أجول في معالمها التي لا تنتهي، ومدارسها الإسلامية التي شيّدت من قرون طويلة فارطة، وغرائبها التي لا تنتهي، بحيث أنني ندمت أنني لم أخصّص وقتاً أطول لأمكث بها وأستزيد.

من هذه الغرائب التي شدهتني بها بخارى: قرية العرب. القرية تتكلم اللغة العربية القديمة، وهم بقايا جيش قتيبة بن مسلم الباهلي الذين استوطنوا هذه البلاد، وقد زرتهم، وتحاورت معهم، وما زالوا بعربيتهم، وسأكتب عنهم في المقالة التالية.

بيد أنني مررت بمقبرة، قال عنها مرشدنا بأنها مقبرة اليهود، وفعلاً رأيت النجمة السداسية خاصتهم، أعلى البوابة، وتملكتني الروح الإعلامية لأدخل، وأستفسر عن حيواتهم، وأعدادهم، وتاريخهم في هذه المدينة، وكيف عاشوا في كنف المسلمين طيلة القرون الطويلة التي قضوها هنا؟!

حالما دخلت بكاميرتي المقبرة، وسألت العاملين هناك ببعض أسئلتي، استمهلوني، واتصلوا بالحاخام الأكبر لديهم ليأتي ويجيبني، والذي ردّ على اتصالهم بترحيبه، وأنه بالطريق لنا، وكانت فرصة لي بالتسلّح ببعض المعلومات عنهم، فلذت ل”قوقل” على عجل، بحثاً عن تأريخهم لأتحاور والحاخام الآتي، فوجدت معلومات ضئيلة عنهم، لخصها الباحث علوي السقاف، أن جذور يهود بخارى تعود إلى عصور قديمة، وأن أساطيرهم تقول بأنهم منحدرون من أسباط يسرائيل العشرة المفقودة. وأنهم مندمجون في الوسط الحضاري الذي يعيشون فيه، ويتحدثون اللغة الطاجيكية، وهي لهجة فارسية، وأن يهود بخارى وأفغانستان ووسط آسيا كانوا يُشكِّلون وحدة ثقافية واحدة، ثم انقسمت هذه الجماعة في القرن السادس عشر، مع بداية الحكم الشيعي في إيران، إلى يهود إيران ويهود وسط آسيا ويهود أفغانستان الذين ظلوا تحت الحكم السني. ثم انقسمت الجماعة الأخيرة، في القرن الثامن عشر، وتفرَّع عنها يهود بخارى ويهود أفغانستان.

“إبرام إسحاقوف”، هو حاخام بخارى اليوم، بلباس عصري، ووجه حليق عكس ما نراهم به، وفوجئت بترحيبه الكبير، وحفاوته البالغة؛ بدّد الصورة المرتسمة عن الحاخامات المتعصّبين كعوفاديا يوسف البغيض، وشرح يحكي لي بروح منفتحة عن تأريخ اليهود هنا، وأن أجداده أتوا من العراق بعد السبي البابلي، ومذبحة اليهود على يد الملك الكلداني الشهير بختنصر، وأنهم أتوا عن طريق أفغانستان.

كان الحاخام إبرام يتكلم كمعظم أهل مدينة بخارى باللغة الفارسية، ومضى يحدثني عن التسامح الذي لاقوه طيلة كل القرون الماضيات هنا في هذه البلاد، وكيف أنهم عاشوا في وئام وتسامح مع المسلمين، بل إن المعبد اليهودي القديم بناه ذات السلطان المسلم الذي بنى الجامع الكبير، وقال بأن 45 عائلة يهودية هي التي بقت، تعيش في بخارى اليوم، بينما هاجرت معظم العوائل اليهودية، خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفيتي البائد، إلى إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.

كان يتكلم بكل الامتنان عن روح التعايش بينهم وبين المسلمين هنا في أوزبكستان، وقال بأن اليهود في كل العالم تعرضوا للتنكيل والتشريد والتعذيب، إلا في هذه البلاد، وأنهم لاقوا ذات ما لاقاه مسلمو هذه البلاد على مدى القرون الفارطات، من الطغاة الذين مرّوا عليهم، عدا عهد الاتحاد السوفيتي، فلم يمسّهم ستالين بأي شيء، وذكره بالاسم.

سألته عن سبب حفاظهم على هويتهم ودينهم طيلة هذه القرون الماضية، وهل كان بسبب تحوصلهم على أنفسهم وعدم انفتاحهم، وإن كانت العولمة اليوم التي تخترم كل المجتمعات المحافظة؛ مسّتهم بما فعلت مع كل الإثنيات المنغلقة بالعالم؟ أجابني حاخام بخارى بأن ذلك صحيح، وأنهم كانوا لا يزوجون أبدا من خارج الطائفة، وأنهم باتوا يتقبلون اليوم زواج اليهودية من غير اليهودي، عبر طقوس لديهم، حيث يأتي الشاب لهم لأخذ دورة لديهم في المعبد، ومن ثم يرسل إلى اسرائيل كي يصبح نصف يهودي.

عندما عدت للإحصاءات عن أعداد يهود أوزبكستان، وجدت أنهم في إحصاء أجري عام 1959: ثمانية وعشرين ألفاً، يعيش ثلاثة وعشرون ألفاً منهم في أوزبكستان، في سمرقند وبخارى، والباقون في طاجيكستان. بينما إحصاء 1989، فيحدد العدد بنحو 36.568 ألفاً، وثمة من أسلم من هؤلاء اليهود، واندمج في المجتمع الأوزبكي.

الحاخام إبرام تحدث أمامي بكل الفخر على أنهم في معبدهم اليهودي ببخارى يحتفظون بنسختين من التوراة القديمة، عمرها قرون طويلة، جلبها أجدادهم، ولا توجد مثيلتهما إلا في إسرائيل، وأن ثمة يهوداً من أمريكا عرضوا عليه الأموال الطائلة ليشتروها، ورفض بيعهما تماما، وعندما اطلعت عليهما، كانتا محفوظتين في خزانة، واحدة يقرأ منها يوم السبت، وأخرى في أيام أعيادهم، مكتوبتين بلغة عبرية على جلد غزال، ورأيت صور الحاخام أبرام مع مادلين أولبرايت وهيلاري كلينتون وثلة مشاهير زاروا هذا المعبد الذي أستطلع فيه ببخارى، ولم يقصّر إبرام -بمعنى إبراهيم- الذي قام بالتقاط صور لي معه في المعبد، وكان يقول بأنه يشارك في أعياد المسلمين هنا ويذهب لتهنئتهم، وأن مشايخهم يردون عليه بالمثل، بل إن زوجة وابنة الرئيس الحالي لأوزبكستان شوكت مرزاييف شاركتا بآخر احتفالية لهم، مشيداً بروح التسامح التي تسري هنا بين أتباع الأديان، فقلت له بكل الفخر إن بلادي المملكة العربية السعودية لديها مركزاً عالمياً للحوار والتفاهم بين أتباع الديانات والثقافات بالعالم.

ودعني الحاخام إبرام بكل الحرارة، وأنا أغادر معبدهم، وقد رسم صورة أخرى عما كان في نفسي تجاه أي يهودي، ودهمتني -رغماً عني- عاصفة أسئلة لابت بداخلي: ألم يأن الأوان لتفكيك وتوسيع النظرة الشرعية التي درجنا عليها تجاه التعامل مع اليهود؟ ألم يحن الوقت للتفريق بين المسالم والمحارب منهم، واسقاط ما نعيشه في عصرنا، وما استجد في الساحة العالمية، على رؤيتنا الشرعية في التعامل معهم؟ القادم من الأيام تجعلنا متمآسّين بالتعامل المباشر معهم، بفعل هذا الانفتاح العالمي الحتمي، ولا بدّ من توسيع النظرة الشرعية التي درجنا ونشأنا على زاوية واحدة منها فقط، وهنا دور مجامعنا الفقهية وشرعيينا المعتدلين، الملمّين بتفاصيل الحراك العالمي ومستجداته التي تفرض علينا دراسة وتقييم التعاطي الشرعي من جديد.

بخارى مدينة التاريخ والمعرفة والعلماء والتسامح والغرائب والدهشة، كم أنا محظوظ أن زرتها!!

مبادروة ملتزمون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى