الإعلامي عبدالعزيز قاسمالمقالاتشريط الاخبار

*لقيطٌ على باب مسجد*

   بقلم الكاتب و الاعلامي : عبدالعزيز  قاسم         

كان مشهداً مؤثراً حضرته قبل أيام، حيث حبست قاعة الهيلتون بجدةالتي غصّتبالحضور من الجنسينأنفاسها، وهي تسمع نحيب الأم الحاضنة، التي تكاد تطيرفرحاً، وهي التي حُرمت نعمة الانجاب، لنراها بتلك الصورة التراجيدية متهادية فيمشيتها بالمنصة الرئيسية، متجهة لاستلام طفلها بالرضاع من يد سمو الأمير مشعل بنماجد، لتتحشرج الكلمات في فمها، ولا تدري ما تقول سوى الشكر بعينين مغرورقتينبالدموع، والطفل الرضيع مستكنّ في حضنها.

سأطرح في مقالتي موضوعاً اجتماعياً حسّاساً، ألزم طرحه ومناقشته ما دهمت به كلالمجتمعات اليوم، من هذه العولمة القسرية التي جعلتها تنفتح على كل ثقافات العالم،ونحتاج أن نناقش الموضوع بكثير من الصراحة والعقلانية، مستصحبين التطور العلميوالطبي، متمنياً أن تصل سطوري وفكرة المقالة لوزيرنا الخلوق أحمد الراجحي، ابنالأسرة الكريمة التي اشتهرت بالخيرية والصلاح والكرم .

سأناقش اليوم معكم موضوعالأبناء فاقدي الرعاية الوالديةأوالأيتام مجهوليالأبوينأو التعريف الشرعي لهم: “اللقطاء، والتي استعاضت جمعيةالودادالخيريةصاحبة الحفل الآنفاطلاق الاسم الأول في تعاملاتها، تخفيفاً من وقع الاسم الشرعيعلى هؤلاء الأبناء، وحسناً فعلت، فلا يعرف حساسية فتياتنا وأبنائنا هؤلاء من هذاالشعور المؤلم الذي ينتابهم، وقتما يصلون مرحلة البلوغ، عندما يعرفون أنهم أتوا لهذهالدنيا بطريق السفاح؛ إلا من خالطهم، حيث لن تتصوروا مقدار ردة الفعل، والكراهية التيتتفجر منهملحظتئذتجاه متبنيهم ومن حولهم، والحقد الذي يتلبسهم تجاه المجتمع،وكل تلك الأدواء النفسية التي تخترمهم في سنيّ أعمارهم الفتيّة تلك، لدرجة أن البعضخصوصاً الفتياتيحاولن الانتحار، هرباً من الحقيقة القاسية التي عرفوها.

المهندس الخلوق حسين بحري رئيس جمعيةالودادالخيرية، كان له حلم أراد به أنيختم باقي حياته في العمل الخيري، وهو رجل الأعمال الموسر الذي خطا نحو استثمارأمواله للآخرة، ولا نزكيه على الله ونحسبه كذلك؛ اتجه لخدمة هذه الشريحة من أبنائنا،وبذل مساعيه الكبيرة، حتى أنشأ هذه الجمعية قبل عشر سنوات، والتي واجهتصعوبات جمّة، بيد أنهوفريقهقفز بها لتثبت أقدامها برسوخ، وباتت اليوم من أرقيالجمعيات الاجتماعية مهنية واحترافاً في العمل الخيري في بلادنا.

يقول لي رئيس هذه الجمعية: أرجوك أن تستمع لهذه القصةكمثال واحد لأمثلة لاتحصىالتي لما تزل تتلجلج في نفسي، وتحرقني كلما أتذكر هذه الفتاة التي اتصلتبي وتقول أرجوك أن تنشر قصتي، علّ الفتيات ممن أخطأن مثلي؛ ينتبهن ولا يقعن فيذات ما وقعت فيه، إذ كانت لي علاقة مع رجل تعرفت عليه، ورويداً رويداً تطورت العلاقةحتى عشقنا بعضنا، وبتنا نتلاقى من خلف أهلي، حتى وقعناذات لحظة بشرية عارمةانتابتنافي الخطأ، وحملت منه، ولأني كنت في سنّ يافعة، وخفت إن عرف أهلي بحمليسيقتلونني؛ لتسوّد الدنيا أمام عيني، وغام كل شيء أمامي إلا من وقع الخبر الصاعقةعلى عائلتي، وهم ذات أرومة رفيعة في القبيلة، فلم يكن لي بدّ إلا الهرب من البيت، حاملةالإثم في أحشائي،  ليتلقفني الرجل الذي حملت منه، وينزلني في شقة مفروشة، ومضتالأيام كئيبة ثقيلة، وما هي إلا أسابيع ليتنصّل مني الرجل الجبان ويهرب، بعد أن بتّعبئاً عليه، وظهر أنه بلا أية رجولة أو مروءة أو شهامة، لأجد نفسي في الشارع مع الطفلالذي يكبر في بطني، وبتّ أتسول وأنام في مراكز التسوق تارة، أو الأرصفة المتسخة،وأعتاش بما يتكرّم به عليّ السابلة من صدقات، حتى ولدت طفلي، لأتركهذات فجرأمامباب مسجد، وأهيم على وجهي، ظناً مني أنني تخلصت من الإثم.

عشت أسوأ حياة ممكن أن تتخيلها، وفكرت لمرات بالانتحار كي أتخلص من العار والذل،وما أنا فيه من فاقة وعوز، وانتهى بي الأمر أن بات الرجال يتلقفوني واحداً تلو الآخر،وامتهنت الرذيلة كي آكل وأعيش، وأنا بنت تلك الأسرة الكريمة الرفيعة، التي لا أستطيعأبداً العودة لها.

يكمل لي الصديق المهندس حسين بحري، بكل التأثر والتمزق في قلبه، وقد لمعت عيناهمن الدمع، ليبادرني: هل تعلمأخي أبا أسامةأن 90% من الفتيات اللواتي يحملن؛يهربن من بيوتهن، ولا تعلم النسبة التي تكبر اليوم في مجتمعنا بفعل الميديا والانفتاحالذي أتى على كل المجتمعات المحافظة في العالم. ودعني أختم لك بأكثر ما آلمني منمحادثة هذه الفتاة، التي أنهت لي حديثها وهي تقول: كل ما مررت به من تشرّد ونوم فيالأرصفة، وتوالي الرجال السوء الذين يتقاذفونني كسلعة رخيصة مهانة، وشتمهم لي،وكل ما تتخيله وما لا تتخيله مما تعرضت له؛ تحملته، ولكن الذي لم أستطع تحمله اليوم؛هذا الألم الذي يعتصرني، والبكاء المرير الذي أنخرط فيه، والعذاب الذي يستبدّ بيويكويني كلما أخلو لنفسي، ويسوطني السؤال الذي يتكرر كل يوم، ويلاحقني أينماذهبت، ولا أعرف له إجابة: أين هو طفلي الآن؟

أطرقتُ برأسي، وأنا أخفي دمعة طفرت رغماً عني، من هول مفاجأة الخاتمة، متخيلاًالسفّود الملتهب الذي يشوي ضميرها كل يوم، وأنا الذي ظننت أن فتياتنا اللواتي عثرنفي سنوات أعمارهن اليافعة؛ قد تخلصن من الإثم، وارتحن بترك الطفل على باب المسجد،أو في مركز تجاري، أو حتى للأسف في حاوية نفايات، لتقفز صورةٌ رأيتها في إحدىالصحف لطفل لقيط رمته أمه الخاطئة في حاوية نفاية، وقد أكلت الجرذان جزءاً منخدوده.

بادرت الصديق حسين بحري بعدما خفّت عني تلك اللواعج الموخزة من قصة هاته الفتاة،وقلت له: يا أخي، لدى الفقهاء قاعدة شرعية تقول: “الدفع أسهل من الرفع“!! يا أخي ألايمكن وأد المشكلة في بداياتها، وقبل أن تستفحل؟ هناك موضوعابتزاز الفتيات، التيتعاظمت كظاهرة قبل عقدين من السنوات، وكنّ هاته الفتياتلجهلهن وخوفهن منآبائهنيرضخن للابتزاز، ويلقين ذات المصير الذي حكت عنه الفتاة الخاطئة للتو،وأفلحت كثيراً هيئة الأمر بالمعروف من سنوات طويلة في تخفيف الظاهرة والحمد لله، فقدأمّنتوقتذاكخطاً هاتفياً مأموناً للفتاة التي يريد ابتزازها الشاب عديم المروءة التيوثقت به، لتتواصل مع الهيئة عبر ذلك الخط، وبطريقة سرية مأمونة، لا يعلم أحد منعائلتها عنها، فيكمنون له مع رجال الشرطة والمباحث، ويصطادون الذئب البشري المبتزّ،وينهون القضية بسرية تامة، ولا يعرف بها أحد، وتعود الفتاةبعد جلسات مناصحة لهاوقد وَعتِ الدرس كاملاً. لماذا لا تبادر وزارة العمل والتنمية الاجتماعية بفعل ذات الأمر،وتنشئ جهازاً خاصاً لهذا الأمر، وتؤمّن خطاً هاتفياً مباشراً للفتيات اللواتي حملنسفاحاً، ويُشاع ويشهر ذلك إعلامياً، ويتاح للفتاة الصغيرة التي أخطأت، ولا تعرف كيفتتصرف الاتصال بهم؟ وهم يتولون حلّ قضيتها. وإن صعب تكوين لجنة وجهاز خاصبهذا الأمر، لتوكّل جمعيات موثوقة كجمعيةالودادمثلاً، لتقوم بهذا الدور، مع تقديمالدعم الرسمي والقانوني والمادي الكامل لها من قبل الوزارة؟

هذا اقتراح أضعه بين يدي وزيرنا الخلوق أحمد الراجحي، بتكوين لجنة من وزارة العملوالتنمية الاجتماعية ووزارة الصحة وهيئة كبار العلماء والمختصين الذين تراهم الوزارةأهلاً لمناقشة هذا الموضع، وتدرس اللجنة حلولاً واقتراحات لحلّ المشكل، وتأمّلمعاليالوزيرالحال التي انتهت لها ابنتنا الخاطئة تلك، مع إنه لو كان ثمة خط ساخن اتصلتبه، وتلقفها تربويون ومتخصصون وآباء، وقاموا بإحضار الشاب ليزوجوهما مثلاً،وستروا عليهما، أو قدموا حلولاً لها وساعدوها وهي الغرّة الجاهلة العوان عديمة الخبرة؛لما انتهت لذلك المصير الأسيف، والقصد أن ثمة حلولاً جديرة بالدراسة، تمنع أن تنتهيأمثال تلك الفتاة هذه الخاتمة الفجيعة.

آتي للبّ المقالة والتي يمكن أن تحل المشكلة من صميمها: قضية اجهاض الطفل الذي ولدسفاحاً، من مثل هذه الحالات التي تنتج لنا اللقطاء، وقضية الإجهاض من الموضوعاتالحساسة في مجتمعاتنا الإسلامية، بل وحتى الديانات الأخرى،  وقد تحدث فيه فقهاؤناكثيراً، ولست هنا بالمتخصّص الشرعي، ولن أفتي أو أدلي بأي حديث يخصني،  بيدأنني أنقل هنا ما خرجت به من جلوسي ومناقشاتي مع باحثين ومتخصصين، أحدهملديه رسالة دكتوراة في هذه القضية، ألخص لكم ما خرجت به، بأن الاجماع من الفقهاءبحرمة اسقاط الجنين بعد نفخ الروح، وقد قدّروها ب 120 يوماً، إلا في حال أن الجنينخارج الرحم، مما يسبّب ضرراً بالغاً على الأم، ويصل الأمر إلى أن يموت أحدهما، فيجوزإجهاض الجنين حينئذ، حفاظاً على حياة الأم.

ولكن ماذا عن الفترة التي قبل ال120يوماً؟

ثمة اختلاف بين العلماء حول ذلك. ورجل عامي مثلي يسأل: إن كان الفقهاء أعطوا الحقلإجهاض الجنين قبل 40 يوماً للزوجين الشرعيين، أليس من الأولى أن يُجهَض هذا الطفللسدّ مفسدة عظيمة، تتمثل في احتمال جنوح أو انتحار هذه الفتاة، وضياعها وانتهائهاللرذيلة، والضرر الذي سيلحق بالعائلة، جرّاء تشويه سمعتها، فضلاً عما سيعتور هذاالطفل اللقيط عندما يكبر من أدواء نفسية حادة؟

سأكرر على أحبتي بأنني لست مفتياً هنا، ولا أتدخل في الشؤون الشرعية، ولكننيأطرح تساؤلات، طالما ثمة أقوال أخرى معتبرة تجيز الإجهاض، وهذه المآلات التي سقت،تجعل المفاسد بيَنة واضحة، وحتى لو احتج البعض بأننا إن أبحنا اجهاض الحملالسفاح، فإن ذلك مدعاة أن يفشو الجرم وتعمّ الرذيلة، لأقول لهم بأن الانفتاح الذي عمّ كلالمجتمعات المحافظة، يدعونا لإعادة النظر في اشهار هذه الحجة، وأكرر مطالبتي  باللجنة الآنفة التي أدعو الله أن يكون عضو الإفتاء فيها، من علمائنا الشباب الذي خبرواهذه التغييرات المجتمعية الجبرية، فهو أقدر على تقدير عظم المفاسد، فضلا على أنالإجهاض لن يكون إلا بتفويض من هذه اللجنة، وبطريقة سرية وطبية آمنة، بدلاً ممانسمعه بأن بعضهن يلجأن للمشعوذات في الأحياء الشعبية، وبأدوات غير صحية قذرة،وسبق أن قامت محررة صحفية في مجلةرؤىقبل عشر سنوات بتحقيق في عملياتالإجهاض التي تجريها بعض النسوة الأسيويات والأفريقيات في أحياء جدة الشعبية،والتي تنتهي معظمها بعاهات في الرحم للأسف الشديد.

أيها الأحبة: ليتخيل كل واحد منكم، مجرد خيال الآن، وأنتم تنهون قراءة مقالتي، أن هذهالفتاة هي ابنتك أنت، تلك المراهقة الصغيرة في بيتك، كيف سيكون موقفك؟

مبادروة ملتزمون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى