*لقائي والصديق الذي يتحدى السرطان*
بقلم الكاتب والاعلامي : عبدالعزيز قاسم :
“لقد تعبت كثيراً أبا أسامة.. زادوا عليّ جرعة الكيماوي“.
كان صوته خافتاً، متعباً يتهادى عبر تسجيل الواتس آب، لا تحتاج لكثير تركيز لتميّزالألم العميق الكامن في نبرات صوت صديقي، الذي يمضي أكثر من عام ونصف؛ يكافحهذا المرض الخبيث هناك في “ميونيخ” بألمانيا.
جملته الآنفة كانت كخنجر انغرس في صميم القلب، بيد أنني تجالدت، وحاولت قدراستطاعتي أن أتحكّم في جيشان الألم الذي انبجس رغماً عني، لأردّ عليه بحبوروحماسة، ما فتئت طيلة كل هذه الفترة أحادثه بهما، فلا نملك ونحن على البعد، سوىالدعاء الصادق له، ومساندته ببثّ الأمل في نفسه، وإشعاره كم هو مهم وغالٍ عندنا، وأنمعركته مع السرطان ستنتهي بشفائه بإذن الله.
جلست مهموماً مكدّراً طيلة يومي ذاك، ويعلم الله كم كانت نفسيتي سيئة، وعفت أنأتناول طعاماً أو شراباً بسبب الكدر الذي كنت عليه، إذ تذكرت أستاذي الحبيب د. عبدالقادر طاش، وهو يشكو لي شدّة الكيماوي عليه، وكرهه الشديد لتلكم الجرعات التيتميت المريض مرات عديدة من قوة ألمها، وتداعت لذاكرتي صوره –يرحمه الله– وأحاديثهومصارحته لي، في أويقات الصفاء معه، وأطلقت دعوات خالصات، توجّهت بها لله القديرأن يتغمّد أستاذي العظيم ذاك بالرحمة، ولصديقي الأثير هذا بالشفاء، ولا يملك الإنسانسوى حمد الله على نعمة العافية التي ننساها أبداً، إلا عندما تمرّ علينا حوادث وحكاياتمفجعة مما تلمّ بأحبتنا.
ابني الدكتور أسامة لمح الألم في قسمات وجهي، وانتبه لكدري وأنا أحدّث والدته عنصديقي الشريف محمد الراجحي، الذي كان ملء مدينة جدة، يجوب مناسباتها بالطولوالعرض، ويقوم بدعوة أصدقائه من رجال الأعمال بشكل شبه يومي، ولا ينفك يتواصلمعنا، ويدعونا لأمسياته التي يقيمها محبةً وتواصلاً، لدرجة أنك تخجل أمام إلحاحهوروعة إخوّته إلا أن تستجيب له.
وأكمل الصديق حراكه الأخوي ذاك بإنشاء “قروب واتس آب” جمع فيه نخباً شتى رفيعة،وبات يحدثك كل أوقات اليوم ويتواصل معك، ويدخلك في سجالاته، ولا يمرّ أسبوع إلاويدعو صفوة ذلك “القروب” لمناسبة عشاء، ويقوم بتصوير “السلفي” مع كل مدعو،وينشره في وسائل التواصل الاجتماعي.
بيني وبين صديقي الشريف الراجحي محبة وإخوة، واختصني –مع أربعة من خلّصأصدقائه– بإبلاغنا بما بُلي به من هذا السرطان الخبيث، وما ينفك –أبو عبدالله– بالتواصلالخاص معي، ولمرات عديدة كلمته والدتي الغالية ودعت له، وبتّ كل ما التقيها، تبادرنيالحبيبة الغالية بسؤالها: “كيف حال ابني محمد؟ سيأتي بحول الله معافى، وسأطهو لهمن يدي الرز البخاري الذي يحبه“.
أحببت مفاجأته بزيارتي له في مكان استشفائه بالقرب من مدينة “ميونيخ“، وأعرفصديقه الأثير الذي زاره لمرات، أبو ريان العقيد وليد أبو شنب، الذي هاتفته، وقلت لهبرجائي أن يساعدني في مفاجأة الصديق الذي لا يتوقع أن يزوره في هذا الطقس الباردأحد، واستمزج أبو ريان كثيراً الفكرة وتحمّس لها، وقام بالاتصال على صديقنا بأنه آت لهيوم الجمعة لزيارته، ويودّ أن يلتقيه بمطعم في “الداون تاون” بقلب المدينة هناك،وفوجئنا بصديقنا الشريف، يقول له –بكل شهامة– سآتيك للمطار أستقبلك، مما نسف كلمخططاتنا، فاضطر أبو ريان لإخباره أنه آت ل“فرانكفورت” أولاً، ومن ثم سيأتيهل“ميونيخ“، فإذا بالشهم هذا، يقول آتيك إذن ل“فرانكفورت” أستقبلك هناك، حفاوةوتقديراً تثميناً منه لزيارته وعيادته له، مما اضطرنا للتسليم أمام نبله هذا.
ثمة أصدقاء في حيواتنا، مهما قدّمنا لهم، فهم يستحقون، لأنهم ببساطة من النبلوالشهامة والخلق؛ يقدّرون ما قدّمت لهم، ويثمّنون آصرة الأخوة والصداقة التي تربطكبهم.
صديقنا المشترك أبو ريان، استطاع بحنكته ودهائه، أن يضيع صديقنا ويواعده في وسطالمدينة، ووصلنا –أنا وابني أسامة– للمطار، واستأجرنا سيارة، واتجهنا للفندق، ووضعناشنطنا، وانفلتنا سريعاً لموعد اللقاء في قلب المدينة، وأبو عبدالله الشريف الراجحيينتظر –في هذا الجو الصقيع– صديقه وليد أبو شنب، وقد نفذ منه الصبر، وهو مريضيعالج بالكيماوي، حيث المناعة ضعيفة جداً، وأبو ريان يماطله، ويستعجلنا الذهاب،ويتواصل مع كلينا، حتى إذا وصلت هناك، إذا به يفاجئ بعبدالعزيز قاسم أمامه، ورحّببي بالطبع وهو غير مستوعب أبدا الأمر من دهشته، ويطلق شتائمه الأخوية المهذبة علىصديقه وليد تارة، ويعود يرحب بي تارة، وجلس طويلا ولآخر السهرة لا يستوعب ماحدث، ويقول: آخر ما أفكر به أن تأتيني بهذه الطريقة العجيبة، وأن يخرجها العقيد وليدبهذا الشكل، وتمرروها عليّ!!.
فرح –بالطبع– كثيراً بي، وأنستُ جداً به، وقلت له: “أتيت لزيارتك وعيادتك، وكل الذياستطاعه ابني البار أسامة –الذي لا أنسى صنيعه هذا معي– أن يأخذه من إجازة هيستة أيام، خصصناها للجلوس الكامل معك، ومؤانستك، واستعادة ذكرياتنا الجميلةمعك في جدة“.
دعانا صديقي لمطعم أنيق هناك في “ميونيخ“، وكل هنيهة يحدّق بي، وتتسع بؤبؤةعينيه، ويبادرني قائلا: “والله لست مستوعباً ما يحدث أبا أسامة، لست مستوعباً لكل هذااليوم، ما الذي فعلتماه أنت وأبو ريان بي !!”.
بعد إن استقرّ بنا المجلس، قلت له: “لا أعرف، وظني أن الكثيرين من الأصدقاء لا يعرفون،ما حصل لك، فليتك تحكي لنا قصتك والسرطان يا أبا عبدالله!”.
أجابني، وقد صعّد بنظره بعيداً يتأمل، وبكثير من الألم الدفين يحكي لي، أنه شعر –قبلعامين– بآلام حادة توخزه في بطنه، وبعد مراجعات عديدة لأطباء، وعقاقير أتخم بها ولمتنفع، أجرى كشفاً عبر الأشعة المختصة بالأورام، ليكتشف الطبيب أنه مصاب بأورامسرطانية في القولون، ليتجه بعدها إلى ألمانيا برفقة أخيه الكبير الذي لا ينسى له وقفتهوفضله، وبعد مداولات عديدة، وزيارة عدة مشافٍ هناك؛ وصل لأحد أفضل أطباء العالمفي السرطان، ليخبره –بعد فحوصات دقيقة– أنه مصاب بالورم السرطاني، ليس فيالقولون وحسب، بل في الكبد والبنكرياس، بأكثر من 15 ورماً سرطانياً، فأخضعوهلعلاجات عديدة، واستأصلوا تلكم الأورام من القولون والكبد، ولم يتعبه شيء كالكيماوي،لدرجة أنه قال للطبيب الذي يباشره: “دونكم جسمي كله، افتحوه، واجروا كل عملياتكم،واستأصلوا ما تريدون، ولكن جنبوني هذا الكيماوي الذي أحرقني، وفتك بي وبعزيمتي،وأوهنني، وأذاقني الألم والعذاب أصنافاً وألواناً“.
الحمد لله، يمضي صديقي في علاجاته اليوم، بكثير من الصبر وقوة الإرادة والرضابقضاء الله وقدره، ولمست يقينه برحمة الله، وأنه سيعود لأحبابه وأهله قريباً إن شاء الله،وبشرّني أنه بطريقه للتعافي، ولم يتبق له سوى القليل.
في مثل هذه اللقاءات، لا أفوّت أن أستلهم دروساً، أقدمها لأحبتي وقرائي، فسألته عنبعض وصايا الأطباء له، فقال بضرورة الكشف عن الأورام لمن بلغ الأربعين، وهو بسيطعبر المناظير، وأن اكتشاف الورم في بدايته؛ يساعد الأطباء على استئصاله بسهولة قبلأن يستفحل.
ويرسم صديقي الوسيم هذا ابتسامة عريضة على وجهه وهو يقول: “هل تعرف أن هذاالطبيب، الذي هو من أرفع أطباء السرطان في العالم، يقول لي، تناول ما تريد من الأكل إلا“المندي“، فذهلت عن كيفية معرفته بهذه الأكلة السعودية الخالصة، فقال لي إن معظمأكلاتكم –أيها السعوديين– من الرز واللحم، بطريقة الطهو الذي تقومون به؛ تحفز الأورامالنائمة أن تحيا، وتسبب السرطان لكم دون أن تشعروا“.
سألت صديقي كذلك عن دروس الحياة التي خرج بها من محنته هذه، نظر تجاهي،ودمعت عيناه، وتقطب وجهه، وأجاب بصدمته الكبيرة بالكثيرين من أصدقائه ممن ظنأنهم للنوائب، فإذا بهم يتنكرون له، بل البعض بدلاً من أن يزرع بنفسه الأمل، ويساندهفي هذا البلاء الذي ابتلي به؛ يزيده وجعاً إلى وجع، ويسوطه بلسانه، ويتحدث بالسوءعنه، بلا أية مروءة ولا خلق ولا تربية، لا يتوقف عن التشكيك في ما أصابه من مرض، ولايراعي ما هو فيه من بلاء، ولا يلتمس أي عذر، ويكمل لي –بألم عميق– قائلاً: “بل ترىبعضهم، يتحدث بسوء طوية في المجالس وينال من سمعتي ومني، بلا وازع تقوى منالله ولا ضمير.. لكنني لا أملك –في مقابل أولئك– سوى حمد الله على الصفوة التي وقفتمعي، لا أنسى لهم فضلهم، وسؤالاتهم التي لم تتوقف“.
وأنا راجعٌ لفندقي في هزيع الليل الأخير، لكأن ديناً ثقيلاً أزيح عن كاهلي، ولكأن صديقيهو الذي عادني وزارني وآنسني والله، بما أدخله في نفسي من سعادة، لا تعلمون أيسرور كنت عليه لحظة لقائه والاختلاف إليه!! وأيّ فرحٍ جثم عليّ من رؤية صديقي!! وبتّ من الخفة والنشاط وحماسة النفس؛ برضا وسلام داخلي ملأني بالكامل، ورددت:
العمر يمضي، ومثل هذه اللفتات تظل خالدة بالنفس، يستصحبها الإنسان لآخر حياته لاينساها.
مقالتي اليوم تتحدث عن زيارتي -وابني الأكبر أسامة- لميونيخ، لعيادة صديق عزيز يعالج من السرطان هناك، ومفاجأته هناك بدون أن يعلم بمجيئي له..المقالة بعنوان: https://t.co/0RJLlusgq1
— عبدالعزيز قاسم (@azizkasem) February 29, 2020
نعم الصديق المخلص
فالصديق المخلص هو الذي يعرف عند الشدة والمعاناة ويقاسمك ويشاركك وقت الفرح والشدة بل تتعرف عليه أكثر عند الشدة والبلاء وعند البعد لا ينفك عن الدعاء على ظهر الغيب
ويواسيك دائما وابدا.
ويصادقك وليس ممن يصدقك ولا يصادقك
فنعم الصديق هذا.