الإعلامي عبدالعزيز قاسمالمقالاتشريط الاخبار

كيف هو شكل عالمنا بعد كورونا؟

بقلم: عبدالعزيز قاسم
إعلامي وكاتب صحفي

“شكل العالم يختلف. فاليوم، لا يوجد سوى BC، أي العالم قبل كورونا، وAC، أي العالم بعد كورونا”. توماس فريدمان

بإنصاتٍ كامل، والضياء البرتقالي الشفيف يرسم لوحة السماء، وقد غربت الشمس للتو، مرهفاً السمع لصوت المؤذن الشجيّ. أتأمل في ذلك الممشى الطويل -الذي اعتدت المشي عليه بُعيد صلاة المغرب- يشكو وحدته، لتستوفز حواسي كلها؛ جملةٌ جديدةٌ لم أسمعها في حياتي قطّ من فيّ مؤذن: “صلوا في بيوتكم”، لأحوقل بعده، وأنا مسكونٌ بعشرات الخواطر والأسئلة التي انبجست مباشرة، متساءلة عن هذا الفيروس الصغير الذي حبس المليارات من البشر، وأوقف العالم كله على قدميه.

جائحة كورونا ستؤرخ بها البشرية، وربما كان أكبر تحدّ لها -بما قالته ميركل لشعبها- بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتأكيد أنّ لها تبعات على العالم كله، وعلى سلوك البشر بما تفعل الأحداث الكبرى.

معظم قراءات المحللين والمراقبين في الشرق والغرب تقول بأن الصين قادمة، وإننا إزاء عولمة جديدة، لن تكون فيها أمريكا متسيّدة بما كان الوضع عليه قبل كورونا، وربما كان المفكر “كيشور محبوباني”، الزميل في معهد البحوث الآسيوية في جامعة سنغافورة، في مداخلته بمجلة “فورين بولسي” الأكثر تعبيراً عن هذا الاتجاه، هو يقول: “جائحة كورونا لن تغيّر الاتجاهات الاقتصادية العالمية، وإنما ستُسرّع التغيير الذي بدأ بالفعل، وهو الانتقال من العولمة التي تتمحور حول الولايات المتحدة إلى عولمة تتمحور حول الصين”. ولكن هل تقبل الولايات المتحدة بذلك، وهل ترضى التنازل أو تَقاسُم ريادتها على العالم؟ تلك قصة أخرى لها سيناريوهاتها، والعالم رأى موقف ترامب من شركة “هواووي”.

ربما كان من الأمور البدهية الأولى؛ اجتماع العالم على وضع استراتيجية لمكافحة جوائح وأوبئة تجتاح كل العالم ككورونا، وبالأمس الثلاثاء بادر بذلك الرئيس الصيني “شي جين بينغ”، ووجّه رسائل إلى زعماء العالم بهذا الشأن، وقال: “إن من الضروري بناء مجتمع بشري، له مستقبل مشترك لمكافحة التحديات العالمية مثل وباء فيروس كورونا”. مضيفاً: “إن حيوية وأهمية بناء مجتمع مستقبل مشترك؛ أصبحتا أكثر إلحاحاً مما كانتا عليه سابقاً بالنسبة للبشرية كلها، في ظل المعركة ضد كورونا”.

سأمضي معكم في تحقيق بديع مع صحيفة “بوليتيكو” الأمريكية التي نشرت تقريراً بعنوان: “فيروس كورونا سوف يُغيّر العالم للأبد.. وإليكم الكيفية”، استطلعت الصحيفة فيه آراء أكثر من 30 مفكراً من الذين ينظرون إلى الصورة الكبرى، ولكأنهم يقولون: “استعِد، لأنّ الأمر يُمكن أن يصير أكبر مما تخيّلت”، وسأختصر لكم أهم ما قاله أولئكم المفكرون الذين كتبوا رؤيتهم من واقعهم الأمريكي، بيد أن ذلك يكمن أن يطالنا وبقية دول العالم بفعل هذه العولمة التي تسيطر على حيواتنا.

من الأشياء التي قالوها أنها ستتغير: مفهوم الوطنية، إذ أننا -مع الجائحة- إزاء نوع جديد من الوطنية، فطالما ارتبطت الوطنية بالجيش والجنود الذين يدافعون عن الوطن، ولكننا اليوم إزاء فيروس لا يمكن أن تطلق عليه رصاصة واحدة، والمتصدّون الواقفون في جبهة القتال الأول ضد الفيروسات ليسوا مُجنّدين أو مرتزقة أو جنوداً؛ بل هم الأطباء والممرضون والصيادلة والمعلمون ومقدمو الرعاية وعمال المتاجر والمرافق ومُلاك الشركات الصغيرة والموظفون، وسنُعرّف تضحياتهم -بما يقول أحد المشاركين في التحقيق- على أنّها وطنية حقيقية، مضيفاً: “وسننحني أمامهم قائلين: (شكراً على خدمتكم) كما نفعل الآن مع قدامى المُحاربين العسكريين. وسنضمن لهم المزايا الصحية وخصومات الشركات، وسنبني لهم التماثيل، ونُقيم العطلات احتفاءً بهذه الطبقة من الناس التي تُضحّي بصحتها وحياتها لإنقاذ حياتنا. وربما سنبدأ أخيراً في تفسير الوطنية على أنّها: رعاية صحة وحياة مجتمعك”.

من القراءات لعالم ما بعد كورونا، هو “صعود التطبيب عن بُعد” بما يقوله أحد المفكرين المشاركين في التحقيق، حيث: “سيُغيّر الوباء نموذج مكان تقديم الرعاية الصحية. إذ ظلّت فكرة التطبيب عن بُعد على الهامش طوال سنوات، بوصفها منظومةً قليلة التكلفة وعالية الراحة. لكن الضرورة قد تزيد شعبية زيارات الطبيب عن بُعد بالتزام، مع ضرب الجائحة لأماكن الرعاية الصحية التقليدية”. وهو ما أنادي به وزيرنا الخلوق د. توفيق الربيعة، أحد أبطال مواجهة كورونا في بلادي، أن يضع هذا الأمر في أولى اهتماماته بعد رفع النازلة عنا، رغم أنه بدأ بذلك عن طريق الاتصال مع الأطباء بالهاتف، بيد أننا نحتاج توسيعه بشكل أكبر في المستقبل، توفيراً للوقت والجهد والمال.

من أعجب ما قرأت في ذلك التقرير؛ مداخلة أحد المفكرين الأمريكيين وهو يرفع لافتة: “العلم سيسود من جديد” في عصر ما بعد كورونا، ويقول بأن مصداقية الحقيقة ورسولها الأول، العلم، تراجعت منذ أكثر من جيل، إذ تشن صناعات النفط والغاز حرباً منذ عقود ضد الحقيقة والعلم، لتُواصل الجهود نفسها التي بذلتها صناعة التبغ من قبل، ويرى أنه على مدار الأعوام الـ35 المُقبلة على الأقل، سيكون بإمكاننا توقّع استعادة الاحترام للخبرات في مجال الصحة العامة والأوبئة جزئياً.

في هذه الجزئية سأتوقف لأعبّر عن ألمي الكبير، ونحن اليوم، ومع الجائحة التي تعصف بنا وتلزمنا البيوت؛ ننتظر فقط من معامل الغرب أو الشرق ذلك الترياق الذي ينقذ حيواتنا! بتنا رهائن تلكم المعامل، كعالة على حضارات الأمم المتقدمة، وهو ما يجعلني أطلب من أميرنا الشاب محمد بن سلمان، الذي يقود معركتنا ضد الفيروس بكل اقتدار ومسؤولية واحترافية، أن يؤكد على مسألة العلم بالدرجة الأولى لأجيالنا الجديدة، فالأمم تتقدم عبره، والحضارات تسود به، وكم أتمنى إن اجتاح العالم جائحة بعد عشر سنوات -لا سمح الله- أن تكون السعودية من تلك الدول التي تأمل شعوب العالم منها تقديم الترياق عبر معاملها وعلمائها البارزين، وليس ذلك على الله بعزيز، ولا بعيد عن همة ورؤية أميرنا المسدّد.

من المداخلات التي لفتت نظري، رؤية أحد المثقفين بأن “شكل العبادة الدينية سيتغير”، ويرى أن كل الأديان تعاملت مع تحدّي الحفاظ على الإيمان في ظلّ ظروفٍ صعبة مثل الحرب والشتات والاضطهاد، -ولكن لم يسبق أن اضطرت كل الأديان إلى التعامل مع تلك الظروف في الوقت نفسه، ويرى أن “الخُطب عن بُعد” ستزدهر، والممارسات التأملية ستكتسب شعبية أكبر، وأن الأنسنة ستحضر كثيراً في شعارات تلكم الأديان.

أما من أهم الأمور التي ستفرض نفسها: الحياة الرقمية، وانهيار الحواجز التنظيمية على الإنترنت، حيث فرض علينا كورونا السماح بالتعليم المنزلي الجزئي أو التعليم عبر الإنترنت، والعمل عن بُعد، وسيصير من الصعب العودة لما كنا عليه، حيث تبيّن أنّ كثيراً من الاجتماعات، ومواعيد الأطباء والصفوف الدراسية، كان من المُمكن أن تصير مُجرد رسالة بالبريد الإلكتروني. وستصير كذلك الآن بحسب أحد المفكرين المشاركين. وليت وزير التعليم حمد آل الشيخ يفعّل التعليم عبر الانترنت، وهذه التجربة القسرية التي جعلت من طلابنا يتلقون الدروس عبر الانترنت جبراً؛ من المفترض أن يبني عليها خبراء التربية والتعليم عندنا استراتيجيات لمواصلتها وزيادة كفاءتها وتوسيعها، لا أن تعود الأمور مرة أخرى إلى ما كانت عليه.

هناك متخصص اجتماعي أمريكي تطرق لأسلوب الحياة بعد كورونا، وقال بأن من الأشياء التي ستعقب الجائحة ما يتعلق بأسلوب الحياة، وأنه: “ربما يُشجّع عصر الطاعون الحالي على التزامٍ أنشط برؤيةٍ عالمية أدقّ، تعترف بأنّ وقتنا على الأرض محدود، وأنّ ساعة القيامة باتت وشيكة، وأنّ العيش معاً في سلام بهدفٍ مُشترك يتطلّب أكثر من صنع الأُسرة والاستثمارات الحذرة. فالأمر يتطلب قوة اللا عادة”.
بينما بشّر آخرٌ بنهاية طغيان العادة، ويتوجّه لأولئك الذين يلتزمون العادات الحياتية من عمل والتزام وأخذ الحياة كآلة، سيفهمون أنّ الموت يُلاحقهم، وأنّ الوقت قد حان منذ فترة للإقلاع عن ركوب الترام والعمل من أجل المال ولعب البولينغ والذهاب إلى السينما، وهو ما يجعلني أوجّه رسالة لأولئك الذين فاتتهم كثير من متع الحياة؛ أنّ الموت ربما يخطفكم في أية لحظة، ومن المهم تطبيق التوازن الآلهي: “وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا”، وإن لم تغيّر هذه الجائحة نظرتنا تجاه الحياة والوجود والعلاقة بالله تعالى، والعمل للآخرة، مع التمتع بالمباحات؛ فإننا في خسارٍ حقيقي.

الآراء التي قرأت عالمنا بعد كورونا كثيرة، ويرى أحدهم أن فئة منا ستحجم عن المصافحة أو لمس الوجوه، وسيكون ذلك جزءا من طبيعتنا، وربما نرِث كذلك متلازمة الوسواس القهري على مستوى المجتمع، وعلى المدى القريب ستُضيف الجامعات دورات حول الجوائح، وسيبتكر العلماء المشاريع البحثية لتحسين التنبُّؤ والعلاج والتشخيص، وأشياء عديدة مما لا تخطر على بالنا، ولكن هكذا هي الأمم المتقدمة حضارياً، يقرأون ما بعد الحدث، ويسارعون للتنبؤ، كي يوجّهوا ويصيغوا العالم برؤيتهم، ويكونوا روّاده والمتقدمون فيه.

أتأمل في غد أفضل للبشرية، وربما هذه الجائحة نبّهت العالم كله إلى أننا شركاء في هذا الكوكب، ومن الأفضل للجميع أن يسود السلام والتفاهم.

مبادروة ملتزمون

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى