الإعلامي عبدالعزيز قاسمشريط الاخبار

حتمية التأريخ .. أمريكا ستتفكّك

من وحي مظاهرات الولايات المتحدة اليوم.. مقالة كتبتها العام الماضي في أبريل بعيد عودتي من بلاد العم سام .. وجزمت حينها إن لم يقيض لأمريكا أبراهام لونكلن جديد،. فإنها بطريقها للتفكك بسبب العنصرية والتطرف المتفشيتان..

عبدالعزيز قاسم   
أبريل 6, 2019

“الحضارة تموت بالانتحار لا بالقتل”.  أرنولد توينبي

كنت قبل أسبوعين بمدينة “رينو” في ولاية “نيفادا” الأمريكية، أتأمل عبر نافذة غرفتي بالفندق الذي قطنت لحظة انبلاج النور.

كان منظراً يأخذ بمجامع النفس، ويحلّق بالروح لأجواز بعيدة بعيدة، لا يود المرء أن يحوّل بصره، وقد تسمّرت -كاملاً- من هذا الجمال أمامي، وأنا أرى السحب المتفرقات، تصطبغ باللون البرتقالي القاني، ومن ثم تصفر، في لوحة بديعة تُسحر نفسك بها، فيما كان النهر الهادر من جبال “روكي”، يجري مسرعاً تحتي، يتلوى كأفعى منفلتة، لينعكس ضوء الفجر الذي يتمدّد ضياؤه رويداً رويداً على صفحة الماء الجاري، فيضفي سحراً آخر على المشهد أمامي وقتذاك، ولكأن النهر يتموسق بإيقاعٍ تتساوق معه لوحة السماء البديعة.

كرعتُ من كوب القهوة السوداء الذي خفتت حرارته كثيراً، وقد نسيته مع استغراقي في المشهد، وتركته وأنا الذي أعددته عبر الماكينة الموجودة بالغرفة، كتقليد أمريكي يبدؤون صباحهم به، ما جعلني أدمن هذا المشروب بالكامل، وأنا في غمرة جولتي الطويلة، متلذذاً به مع قطعة “سينكرز”، حرصت على جلب كميات منها معي من السعودية.

حالةُ مزاجٍ نفسية عالية، تلك التي كنت عليها ذاك الفجر، ما شجعني لكتابة رسائل لمن أفتقدهم، بعد أدائي صلاتي، ولم أفق إلا على اتصال من أحد رفقاء الرحلة، د. عبدالحميد السعيدي، من المغرب الشقيق، وقد اتفقنا على التريّض صباحاً في هذه المدينة الوادعة قبل بدء البرنامج، وانتظمنا -جذلَين من وحي سحر الصباح- في الشارع الطويل، الذي تراصّت على يمينه ويساره، فنادق فخمة تطاول السماء، تكتظ بكازينوهات القمار.

قلبَ عليّ تلكم النفسية العالية، وطمسَ المشهد الجميل بالكامل أمامي؛ رؤية المشرّدين الأميركيين في بعض الحدائق التي مررنا بها، بتلك الهيئات الرثة وهم يتسوّلون السابلة، ليثور بنفسي السؤال الذي سبق وأن قلته في مقالتي السابقة حيال اهتمامهم بنا، وصرفهم على الحروب في العالم، وترك أبنائهم الأمريكيين “الهوملز” هؤلاء في حالة البؤس والشقاء، ودمدمت حينها: “أمة لا تولي أبناءها أولوية اهتمامها؛ أمة ستفنى من داخلها”.

الولايات المتحدة الأمريكية هي أعظم دولة بالعالم اليوم، بل ومن عقود فارطة، وقدمت حضارتها للعالم الكثير، وحسبك أن تقرأ في أسماء الفائزين بحقول العلوم لجائزة نوبل العالمية، لتجد أن معظمهم في كل السنوات التي مضت هم من الجنسية الأمريكية، وأتذكر انبهاري ورفقتي ونحن نستمع لقيم العدل وحرية التعبير والإعلام والاقتصاد وحقوق الإنسان التي وضعها الآباء المؤسسون، وأقاموا الولايات المتحدة الأمريكية عليها، لتنصب نفسها حارسة للحريات والحقوق في العالم، غير ناسٍ وقوفي أمام التمثال الهائل في واشنطن لأبراهام لنكولن محرّر العبيد، وموحّد أمريكا، واستغراقي الكامل أمامه، مستحضراً سيرة حياته التي جسّدتها هوليود بكثير من الاحترافية السينمائية، وعرفت كيف ضحّى أولئك الأفذاذ بالكثير من الأرواح من أجل حماية القيم الأميركية ووحدة بلادهم.

الولايات المتحدة الأمريكية أمة عظيمة ولا شك، للدرجة التي تهوّر فيها مفكرهم الكبير فرانسيس فوكوياما وقال -مدلّاً ومفاخراً- بنظريته الشهيرة عن نهاية التاريخ، وخلود القيم اللبرالية، قبل أن يعود لرشده، ويؤمن بسنن الكون أنها التي تخلد، لا قيم خاصة بحضارة، بل ستأخذ دورتها وتعلو، ومن ثم تضمحل بعد أن تدبّ في داخلها أدواء انهيار الأمم والحضارات، وهل مثل بريطانيا، تلك الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس قبل أكثر من قرن؛ لتنتهي اليوم في بقعة ضئيلة لجزيرة صغيرة، بل وحاولت اسكتلندا العام الماضي الانفصال عنها العام الماضي!!

كنت حريصاً وأنا منخرطٌ في برنامج “الزائر الدولي” الذي ترعاه الخارجية الأمريكية، شاكراً وممتناً لهم لطيلة 25 يوماً أجوب فيها الولايات الأمريكية؛ أن أنظر لما خلف الواجهة التي طلبوا منا أن نرى، وأن أقرأ ما بعد السطور التي تبدو أمامنا، وسألت في مكتب عمدة مدينة “جاكسون فيل” بولاية فلوريدا السيدة الأمريكية التي كانت تحاضر علينا، إن كانت المرأة في الولايات المتحدة اليوم تواجه تمييزاً من قبل الرجال، طالباً منها الصراحة في إجابتها، ولم تتردّد بقولها: نعم، إننا نواجه تمييزاً كنساء في مجتمعنا، وخصوصا في الولايات الجنوبية، وصحيح أننا حققنا تقدماً في مجال حقوق المرأة، إلا أن هناك من المحافظين في الولايات الجنوبية والداخلية، من يقف ضد حقوقنا، بل والأعجب أن المرأة تقف ضد المرأة.

بالطبع غمغمتُ في نفسي وأنا أفتح فمي دهشة وأتذكر النساء في دول العالم الثالث، ماذا سيقلن إن سمعن هذا الكلام، من سيدة أمريكية في منصب رفيع تتحدث بهذا الحديث، والأغرب أن سيدة أخرى التقيتها في الزيارة العائلية التي قمنا بها بذات الولاية، كانت تعمل أمينة مكتبة، قالت بأن بعض الرجال في ولايتها يتجنب قراءة الكتب التي كتبتها نسوة. بالتأكيد، إنها حوادث فردية، والقانون هناك في صف النساء واللاجئين والملونين والأقليات، بيد أنني أتكلم عن ثقافة متطرفة تستعيد تراثاً ذكورياً متوارياً حاربه دعاة حقوق الإنسان والمرأة، تروج اليوم هناك بتلكم الولايات المحافظة.

كل القسس والقيادات الدينية المعتدلة الذين التقيت هناك؛ كنت أسألهم عن نسبتهم مقابل من لا يؤمنون بالتعايش والتقارب مع بقية أتباع الديانات الأخرى، فكانوا يقولون بالأسف إنهم باتوا أقلية اليوم، مقابل فشو فكر الكراهية تجاه الأقليات، ويواجهون حرباً وضغوطاً كبيرة، للدرجة التي قال مدير مدرسة وإمام مسجد الفرقان الإسلامية إنهم تعرضوا في مدرستهم لتفجير قنبلة عام 2010م، وفي العام الماضي كادت أن تحدث مذبحة على غرار مذبحة نيوزلاندا لولا حفظ الله لهم، واحباط المباحث الفدرالية ذلك الهجوم بلحظات، من أتباع اليمين المتطرف المسيحي.

كان ذلك المدير الأمريكي المسلم يقول بأن الأهالي المتطرفين يريدون منا الرحيل عن مدينتهم، والقانون ولا شك معنا، والشرطة تحمينا، ولكن خطاب الكراهية ضدنا هو ما يسوؤنا وبقية الأقليات والديانات، ومن هنا كان تنبئي المشؤوم بتفكك الولايات المتحدة، إذ الاختلاف بينهم في الوجود، وحق العيش المشترك، والوطن، وهؤلاء يريدون طرد الأقليات وإخراج المواطنين من بلادهم لسبب عرقي أو إثني أو ديني.

أحد المثقفين الأمريكيين المعتدلين قال لي بأن ما يحصل اليوم من فشو فكر اليمين المتطرف لدينا، سببه حركة التاريخ، إذ يبرّر أولئك المتطرفون منا بأنه خلال عقود بسيطة، ستكون الأقليات -خصوصاً الإسبان واللاتين- هم الأكثرية في البلاد، وهم من سيفرض ثقافته على الولايات المتحدة، وبالتالي فإن ثقافة الرجل الأبيض ستتأخر للخلف، فضلاً على أنه سيكون أقلية في بلاده التي أسّسها أجداده، وأن وصول الرجل الأسود أوباما لمنصب الرئيس، ناقوسُ خطرٍ كبيرٍ وبرهانٌ أكيد لهذه الحتمية، لذلك فإن هذا الفكر الذي يتوسّل البكاء على تراث الأجداد وضرورة حمايته؛ يروج ويلقى قبولاً كبيراً، خصوصا في أوساط المحافظين، الذين ينظرون لغيرهم بأنهم سيأخذون بلادهم منهم.

ويضيف لي هذا المثقف الأمريكي بأن اللبراليين من البيض، خصوصاً في الولايات التي على الأطراف، يرون بأن السيرورة وحركة المجتمعات هاته طبيعية، وبدلا من مواجهة حتمية التأريخ التي تقول بأن الأقليات المنصهرة ستحكم، لا بد من القبول بها والانخراط فيها، بدلاً من المواجهة المنتظرة، التي ستؤدي لتفكك البلاد.

كل من لاقيت من القيادات الدينية متبرّمون مما يحصل من الفكر اليميني المتطرف الذي يفشو في كل مجتمع الولايات المتحدة، وعندما كنت أسألهم إن كانت ثمة مواجهة لهذا الفكر، قالوا بأن القانون يحكمنا ويحكمهم، والساسة يرون أنها تصرفات فردية فقط، بل ويجاملونهم بسبب كسب أصواتهم، والقانون يحكم تصرفاتنا ضدهم، بيد أن هذه الثقافة بدأنا نشعر بتأثيرها على العائلات التي كانت معتدلة، وسنصل يوماً قريباً للمواجهة معها، ولكن بعد أن تتسرطن في كل مفاصل البلاد، وحينها ستكون الكارثة.

آمنتُ بعد جولتي الماتعة، التي سقت لكم حالتي فيها ببداية المقالة؛ أن الولايات المتحدة الأمريكية إن لم يُقيّض لها “لنكولن” جديد، يؤخّر حتمية انقسامها واحترابها، وتفكك ولاياتها الذي ينتظرها، ويحارب فكر الجنوبيين القديم الذي انبعث اليوم؛ أنه خلال أقل من خمسة عقود سنشهد حتمية التأريخ لهذه البلاد، وستلحق أمريكا بالاتحاد السوفيتي، وستأخذ حضارات وبلاد أخرى أهم قيمها اللبرالية التي تأسّست عليها، يخدمونها ويخلصون لها بحق، بعد أن انقلب الأمريكيون الحاليون عليها.

ما يحصل اليوم من ثقافة الكراهية تجاه المسلمين واليهود والملونين في الولايات المتحدة هو نحرٌ للقيم المؤسّسة عليها، وهو انتحارٌ لثقافة البلاد، وبما صدّرت مقالتي بما قاله أشهر مؤرخي العالم أرنولد توينبي، فالتاريخ يحدثنا بأن أعظم الحضارات؛ إنما انهارت من داخلها، وليس بسبب خارجي.

“إن جرثومة الشقاق لا تولد؛ حتى يُولد معها كل ما يهدّد عاقبة الأمة بالانهيار”. محمد الغزالي

https://an7a.com/2019/04/06/%d8%ad%d8%aa%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a3%d8%b1%d9%8a%d8%ae-%d8%a3%d9%85%d8%b1%d9%8a%d9%83%d8%a7-%d8%b3%d8%aa%d8%aa%d9%81%d9%83%d9%91%d9%83/

مبادروة ملتزمون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى