الإعلامي عبدالعزيز قاسم

قيرغيزيا.. قصة الـ ١٤ ألف كيلو برًا للحج

بقلم: عبدالعزيز قاسم
اعلامي وكاتب صحافي

انتشر في “الواتس آب” مقطعٌ لدرّاج مغربي، أتى من بلاده على الدراجة الهوائية يريد الحج، ولاقى المقطع رواجًا كبيرًا، ما أعاد لي قصة أول رحلة حجّ من قيرغيزيا بعد استقلالها بتفكّك الاتحاد السوفيتي.. قصةٌ مشوقةٌ وعجيبةٌ أدركت بعض أولئك الحجاج، وكتبت مقالة عنها قبل عامين، أترككم معها..

ما زالت الذاكرة الكليلة تحتفظ بصورِ حافلاتٍ كبيرة ذات موديلات غابرة، في التسعينيات الهجرية، تقف بدايات شهر ذي الحجة في مدينة الطائف بمنطقة “الركبان” التي بها مبنى الاتصالات اليوم، وكانت إذّاك منطقة فضاء، خلوة من العمران، بينما تلكم الباصات المزركشة، التي فُتحت أغطية محركاتها لتبترد بجو المدينة؛ تعود لحجاج إيران وأفغانستان، من الذين أتوا برّاً وعبروا من العراق ودخلوا السعودية منها، حتى وصلوا مدينتي الأحبّ الطائف، لنهرع -سكان المدينة- لشراء السجاد الأفغاني الشهير منهم، وكذلك الزبيب واللوز والفستق الايراني وبقية المنتوجات التي يأتي بها الحجاج.

دُعيت إلى احتفالية توديع حجاج قيرغيزيا لحجِّ هذا العام 1439 للهجرة، بعد أن منّ الله تعالى عليهم بحجة آمنة، وتفيأوا ظلال الأمن التي بسطتها دولتنا، ونعموا بالخدمات التي قدمتها بلادنا لضيوف بيت الله، بيد أنّ عارضاً للأسف منعني من الحضور، ووددتُ التعويض بالكتابة عن أول رحلة حجٍّ برية لشعب هذه الدولة بعد استقلالها عن الاتحاد السوفيتي.

بعد تفكك المنظومة السوفيتية عام 1991م، انفلت مسلمو دُولها المستقلة للحج، وقد كان حلماً عاشه أجدادهم وآباؤهم لم يتحقق، فاهتبل ذلك الجيل الفرصة وانطلقوا جهدهم للحج، فكانت معظم الرحلات تأتي جواً من البلدان الشتى، بيد أنّ بعضهم كان يأتي عن طريق البرّ، ويقطع آلاف الأميال ليصل للمشاعر المقدسة، وأتذكر -قبل أعوام- أنّ حاجاً داغستانياً أتى للحج مشياً على الأقدام، وآخر عبر دراجة هوائية، وهكذا سمعنا عن قصص عديدة لهؤلاء المسلمين بشأن الحج، كأعظم أمنية وأغلى حلم يعيشون له.

كنت مع الابن محمد بن موسى الدرقيني في رحلتي الأخيرة لقيرغيزيا قبل شهر، وقال لي: يا عمّ، أتذكّر أول رحلة برية قامت في هذه البلاد للحج، وكانت عقب ذهابكم، وكنت أنا وكثير من أهل القرية الشرقية فيها، ولا نعرف في السعودية سواكم، (إبراهيم حجار، ويوسف القاسم، وأنت)، وكنا نمنّي النفس أن نلقاكم هناك في مكة”, قطعنا في رحلتنا هذه 14 ألف كيلومتر ذهاباً وإياباً كي نؤدي الركن الخامس. بالطبع استلفتني ذلك، وطالبته بالسرد المفصّل لرحلتهم العجيبة تلك، من أواسط سهوب آسيا الوسطى.

قال الابن محمد الدرقيني واصفاً الرحلة البرية الأولى للحج من قيرغيزيا:
كنا في حافلتين كبيرتين، حافلةٌ ضمت جماعتنا الدرقين وثلاثة من القرغيز، وكنت بها، وحافلة أخرى كانت للدونكان يرأسهم الداعية إدريس الدونكاني يرحمه الله، وهؤلاء قومية من الصين، لديهم الطاعة الكاملة والانضباط، عكسنا نحن أهل الجبال من قومية الداغستان، الذين كنا نتجادل ونختلف، ولم تخل الرحلة من مشاكل وطرائف، سأسرد عليك تفاصيلها، لأنها محفورة بالذاكرة، إذ كنت يافعاً في السادسة عشرة من عمري، وكانت هذه أول رحلة حج برية، وتسامع الناس بها، وودعونا في مشهدٍ مهيب.

انطلقت الحافلتان من مدينة “بشكيك” عاصمة قيرغيزيا في شهر مايو بالصيف من العام 1993م، تجاه دولة كازخستان، التي مررنا فيها بمدينتي “جمبول” و”شنكنت”، ومن ثم دخلنا إلى دولة أوزبكستان لنتجه عبر عاصمتها “طشقند”، ومن بعدها لمدنها “سمرقند” و”بخارى” و”نوائي”، ومن ثم لدولة تركمنستان، لنمر عبر مدينة “مرو” التاريخية، ونصل عاصمتها “عشق آباد”.

لا تسل عن أشواقنا لبيت الله، والإيمانيات العالية التي تحدونا نحن الحجيج، رغم أن الحافلتين قديمتان غير مكيفتين، والطقس حار جداً، إلا أننا تجالدنا، ولم نأبه كثيراً بسبب عظم الأمنية التي تكاد تقترب، وسمو الهدف الذي يكاد يتحقق. كنا نعبر صحارى طويلة، ونهبط لأودية عميقة، ونصعد عبر نجود وجبال، ونحن في حالة من الجذل والإيمانيات، وأرواحنا تشرئب للسماء، وقلوبنا تهتف للخالق أن نُكرم بأداء المناسك، وهكذا كنا في تلكم الروحانيات حتى وصلنا لدولة إيران، واتجهنا شمالا لمدينة “مشهد” بسبب ظروف نهاية الحرب بين إيران والعراق، والحرب التي أعقبت دخول صدام الكويت، فلم يك بدّ لنا من الذهاب من إيران إلى تركيا، ومن ثمّ ننزل من هناك إلى سوريا.

من طرائف ما حصل أثناء الرحلة، أن الدونكان يأتمرون بطاعة مطلقة لشيخهم إدريس الدونكاني، وكانوا منظمين في النزول والصعود، ويطبخون بشكل جماعي، ويتكاملون في الأدوار، بينما نحن على العكس تماماً، وحضر عندنا صراع الأجيال، فمجموعة من الشباب كانوا ملمّين بالأحكام الفقهية والشرعية، ويقدمون الأدلة على تصرفاتهم ورؤيتهم، لكن جيل الكبار لا يقبلون منهم، ويعتبرون أنفسهم الأوصياء، ومن طريف ما حدث أننا عندما وصلنا إيران اختلفنا في موضوع القبلة، ومعنا شاب أحضر معه بوصلة وخريطة ومعلومات شاملة عن ذلك وكنا نقتدي به في الصلاة، لكن الكبار كانوا لا يحبونه بسبب رعونته وتصرفاته الحمقاء في تحديهم، فلا يرونه أهلاً للمصداقية، حتى لو قال شيئاً صحيحاً خالفوه، فصلّينا المغرب والعشاء في اتجاهات ثلاثة، بعضها متعارض بسبب هذا الاختلاف، فقسمٌ أخذ باتجاه البوصلة، وقسمٌ اجتهد في النظر للنجوم، وقسمُ الدونكان الذين اجتهدوا في قبلة ثالثة، بيد أن الأمور سرعان ما تنصلح بسبب سموّ ما سنذهب له، والغاية النبيلة التي سلكتنا سوياً في هاته الرحلة.

أتذكر أننا مررنا بالأجزاء الجنوبية لتركيا، وعبر جبال وعرة جداً في بلاد الكرد، إلى مدينة “ديار بكر”، وكانت تشهد المنطقة توتراً عسكرياً حاداً بين الأكراد والقوات التركية، وأوقفتنا في وسط تلك الجبال مجموعات بهيئات مخيفة، لا نعرف لغتها أبداً وهي تدمدم بغضب، ولكأنهم أشبه بقطاع طرق، وحاولنا عن طريق الاشارات إفهامهم أننا حجاجٌ مسالمون نقصد بيت الله، وبعد لأيٍ ومعاناة؛ تركونا بعد أن أرعبونا، لننفلت تجاه حدود سوريا، وصولا لمدينة “أنطاكية”، ونُنكبُ أخرى هناك، إذ لم تك معنا تأشيرات مرور فيها، واحتجزنا قسراً على الحدود السورية.

أسقط في أيدينا، وقد استبدّ بنا اليأس، وانقطع الأمل، فقد اقترب موعد الحج، ودخل شهر ذي الحجة علينا، وتضاءلت الآمال إلا من الله، وجأرنا بالدعاء والتضرّع، فلا أمرّ من اقتراب الحلم، وإذا بعارضٍ يمنعك أن تصله.

الأيام تمضي ونحن لمّا نزل عالقين هناك على الحدود، وأسرع وفدٌ منا لعاصمة تركيا “أنقرة”، وأخذوا جوازاتنا للسفارة السورية هناك، ولم يك بيدنا سوى الانتظار الممضّ، وقد أحرقت أعصابنا توتراً وقلقاً، إذ لم تك جوالات ولا اتصالات بتلك الأزمنة كي نطمئن، وبقينا لثلاثة أيام على قارعة الطريق، لا ندري كيف تؤول الأمور، وإذا بالبشارات تأتي، إذ أفلح الوفد – والحمد لله – باستصدار رخص مرور بالأراضي السورية لنا، ولكأن فرجاً من السماء فتح، واستيقظت آمالنا بعد موات، واعترتنا البهجة بعد ذبول، وتجدّدت العزائم بعد أن صدَمنا المنع، وانفلتنا ملبيّن داعين مهللين بأعلى أصواتنا تجاه الأردن، مررنا في سوريا بمدن “حماة” و”حلب” و”حمص” و “دمشق” ووصلنا حدود الأردن – التي كنا نحمل تأشيراتها قبلاً- فمرقناها، عبر مدن “الرمثا” و”الزرقا” و”عمّان”، تحملنا الأشواق الحرّى، ويحدونا الأمل الذي انبعث، بيد أنّ قلقاً داخلياً يساورنا، فنحن متأخرون جداً، حتى وصلنا ميناء “العقبة”، ولم نصدّق أن نصل للحدود الشمالية للسعودية.

وصلنا حدود المملكة يوم 7 ذي الحجة، ووجدنا حافلات حجاج من القفقاس والشيشان أيضاً، وكم امتننا لرجال الحدود السعوديين، لا ننسى أبدا تعاطفهم معنا، ولا ننسى كيف شاركونا المشاعر الدينية وهم يستعجلوننا في الذهاب، وأنهوا اجراءاتنا سريعاً، وألحّوا علينا – بمشاعر لا ننساها – في الاسراع، وبمجرد أن سلكنا طريق المدينة المنورة؛ إذا بنفحات الإيمان تلفح وجوهنا، والقلوب تتفجر تلهفاً لرؤية بيت الله الحرام، وكأننا نشطنا من عقال، وسربلتنا الحماسة، وضججنا بالدعاء أن ندرك الحج، ومحركا الحافلتين اللتان تقضيان نهاية عمرهما؛ تهدرا وتزئرا من السرعة التي نغذّ بها السير، وكانتا فرسا رهان، تتسابقان والزمن الذي يسوطنا بالنفاذ، ولم نخسر رهاننا عليهما والحمد لله، إذ وصلنا مكة ليلة عرفة بالضبط، وأدركنا الحج، ولو تأخرنا ساعات قلائل فقط؛ لفاتتنا الشعيرة الخامسة، ولذهب كل ما قطعنا بددا، ولا تسل عن السعادة التي كنا بها، أو تلك الغشية الايمانية التي دهمتنا، وجعلت الدموع تسّاقط من أعيننا، ونحن نرى الكعبة لأول مرة في حيواتنا، وقد تبدّت أمام نواظرنا بثوبها الأسود المهيب، فيما قلوبنا تكاد أن تنخلع جلالاً وهيبةً وحلماً يتحقق، أية مشاعر اندلقت منا!! وأية دموع طفرت!! لا يعرف تلكم المشاعر إلا من عاش حياته بأكملها لحلم جليل كهذا، ورغم أنني فتى يافع إذاك، إلا أنني تلمست الكهول ممن كانوا معي، وهم غارقون في تبتلهم، سادرون في مناجاة ودعاء، منقطعون إلا من تراتيلهم وربهم.

من ذكريات تلكم الرحلة، أن أحد القرغيز المرافقين لنا وقتما طاف طواف القدوم، استأذننا وانفصل عنا، وقال بأنه راجع لبلاده جواً، لأنه أدّى الحج، وعبثاً حاولنا افهامه أن حجّه لم يكتمل، بيد أنه بعدما رأى الأهوال، قال أنا حججت وانتهى، لضعف علمه، ولم نره أبداً بعد ذلك ليومنا هذا.

أتممنا حجنا بفضل من الله ونعمة، وسلكنا ذات الدرب مرة أخرى في العودة، ولكننا هذه المرة مطمئنين، ونزل بعض منا في تركيا وبقوا فيها، ولا أنسى كيف انفجر محرك حافلتنا في إيران، حتى خرجت أمعاؤه قطعاً حديدة متفرقة، فاضطررنا للذهاب إلى أذربيجان لعدم وجود قطع غيار، وسحبت حافلة الدونكان حافلتنا لهناك، وودعونا وعادوا لبلادهم بذات طريق الذهاب، أما نحن، فبعدما أصحلنا حافلتنا في أذربيجان؛ توجهنا لبحر قزوين والعاصمة “باكو”، وصعدنا بالحافلة على عبّارة بحرية عبرت بنا البحر حتى تركمانستان، وأكملنا طريقنا برّاً إلى العاصمة “بيشكك”، وكانت مدة العودة 16 يوماً، ومكثنا في مكة والمدينة 10 أيام، وكل رحلتنا البرية هذه استغرقت منا 40 يوما كاملات.

بعدما انتهى الابن محمد الدرقيني من سرده، شعرت بفخر وزهو بموقف رجال حدودنا الأبطال، فالقصة لها أكثر من ربع قرن، ويتذكر الابن محمد ذلك الموقف الشهم منهم، دمدمت في نفسي وأنا أقول: كيف تجشم هؤلاء قطع 14 ألف كيلو متر، في حافلة غير مكيفة، يصليهم الحرّ في الشهر القائظ ذاك، ولا يستطيعون النوم أو الراحة، كل ذلك في سبيل أن يؤدوا مناسك الفريضة، بينما أكرمنا الله بهذا البيت الحرام بجوارنا، ونتهاون ونكسل أن نحجّ أو نعتمر.

قصةٌ من قصص الحج التي أردت إثباتها، لتصطف في أرفف التاريخ مع آلاف غيرها، تحكي قصة استجابة دعوة سيدنا ابراهيم عليه السلام، لأفئدة تهوي لبيت الله الحرام، ملبية دعوته.

مبادروة ملتزمون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى