الاقتصادشريط الاخبار

لبنان… التضخم الكبير والفجوة اللامتناهية

الحدث: د. محي الدين الشحيمي

يخطئ كثيرا كل من يعتقد بان التضخم هو فقط الانتفاخ المالي والذي يصيب قطاع العملة والنقد,وهو ليس بالذات الانفلاش بالارقام والزيادة في الاسعار , ولا يقتصر على غلاء المعيشة والشعور بالعجز الكمي لقدرة المرونة الطبيعية لفائدة العرض والطلب . فالتضخم هو الاختلال والخروج عن الطبيعة التوازنية لأي جسم ونظام وفكرة وسلوك, هو التطرف بانتهاج النزعة اللاواقعية لاي انفلاش يطال نشاط حركي انساني والذي تكمن خطورته دائما في الانبهار التلقائي للفرد اثناء تحقق الظاهرة لاعتقاده بايجابيات نتائجها اتجاهه غير ان ذلك هو الفخ تماما كالفأر والمصيدة .
انه ليس فقط الانحدار نحو العدمية لجهة التغطية الائتمانية, فالتضخم هو اتباع التصرفات والاهواء الشهوانية الماكرة , حيث انه المبالغة في التصرفات وكل صفات الجشع وكذلك هو التطرف الباطني في العادات والتقاليد . هنالك ايضا النموذج الاخطر والمتمثل بالتضخم العقائدي والتمسك بالاوهام والبعد كل البعد عن حقائق الامور ,هو الغلو السلبي لمقاييس النظام الايكولوجي والذي يقودنا بشكل حتمي لحالة من عدم التوازن في الانظمة والتي ينتج عنها ازمات متتالية ومتعاقبة بوتيرة تصاعدية لجهة التأثير والخطورة هي الفجوة اللامتناهية .
لذلك يقتضي الامر مكافحة التضخم من الجذور والتحقق من كافة مدركاته الحسية , فمعالجة الموضوع تبدأ من المجتمع باعادة تنظيم اولوياته في العودة الى الجذور لما يخص تأهيل الانسان والفرد وحثه على التصرف بوعي واحترام للطبيعة في عدم التطاول عليها والتزام حدوده معها .
فسيناريو الازمة تقليدي ومستهلك الى حد ما , حيث يبدأ بالاخراج الممنهج للكتلة النقدية الصعبة ولرؤوس الاموال الاجنبية من البلد , الامر الذي يولد صعودا حادا في الطلب على العملة الاجنبية ويأتي الدولار الاميركي كهدف أول , وفي الوقت نفسه يحدث ازدياد كمي حاد وفجائي في كمية العرض بالنسبة للعملة الوطنية نتيجة لتهافت الناس على شراء العملة الاجنبية وبيع العملة الوطنية وهذا ما يخلق خطرانهيارها مقابل العملات الاجنبية , عندئذ يحاول المركزي في البلدان التي تتعرض لمثل هذه الوقائع ولبنان نموذجا حاضرا بالمكافحة ضد انهيار العملة الوطنية عن طريق انفاق العملة الصعبة الموجودة في الاحتياط والتي اذا انتهت نكون امام مشكلة انهيار كبيرة .
فالبنوك المركزية في البلدان التي في طور النمو والدول التي يسمى اقتصادها ناشئا وانتقاليا ولبنان جزء منها , تتشكل اصولها على حساب الدولار لذلك نسمع كثيرا بمصطلح “الدولرة” اي ان النموذج الاقتصادي مدولر ومحوره العملات الصعبة (الدولار) , ففيما يخص المعاملات الوطنية النقدية التي يقوم باصدارها اي (العملة المحلية ) فهي ايضا دولارات اميركية ولكنها مزخرفة بشكل اخر ولون مختلف اي بعباءة وطنية , فالساحة المحلية الاقتصادية هي مساحة متوازية لنشاط الدولار ولكن بشكل مموه بالعملة الوطنية , اذ تتباهى البنوك المركزية باستقلاليتها وهي بالفعل تقع خارج سيطرة السلطات الحكومية الوطنية الى حد معين ولكنها ترتبط وتخضع حكما للفيدرالي المركزي باتفاقيات وشراكات , اذ اصبحت هذه البنوك المركزية الوطنية وفي كل الدول مجرد فروع للاحتياطي الفيدرالي , انما تقوم بمراكمة الاوراق الصعبة والخضراء والصفراء في احتياطها العالمي ثم تقوم باعادة تلوينها واصدارها تحت اسم العملة المحلية الوطنية .
في لبنان والبلدان التي تتميز بصفة التعادل الرقمي والتوازن لحجم العملتين الوطنية والاجنبية والتي يجري اصدارها بضمانة اجنبية طبعا , يصار في اغلب الاحيان الاحتفاظ بسعر صرف ثابت واتفاقي بين العملة الصعبة والوطنية فعندها يتحول المركزي الوطني لأشبه بمبدل للعملة الصعبة وليس المصدر للعملة الوطنية وهي طبعا معضلة ومشكلة لعدم ديمومتها وصمودها .
فالمشكلة الاساسية الاولى في ان حجم الاستهلاك العالمي والمحلي والوطني يزداد والمعيار الحقيقي للانتاجية في تناقص تام وملحوظ مع تراجع محتم في المدخرات والناتج المحلي الاجمالي وبالتالي تقليص لتراكم رأس المال الحقيقي والثروة الاصلية اي الصناديق المحورية للقطاع الفعلي او الانتاجي من الاقتصاد ( الصناعة – الزراعة – وجودة التعليم ) , حيث يتم فقط انتاج السلع والبضائع الروتينية التي تلبي في المضمون الحاجة الطبيعية للناس العاديين في دائرتهم الظاهرية .
اما الوهم كما لو ان مراكمة رأس المال ما زالت مستمرة فهو مجرد نتيجة لما تعكسه الاحصائيات من نمو في رأس المال الافتراضي وعلى الشاشات وتفوقه على رأس المال الحقيقي , فرأس المال الافتراضي لا يخدم ابدا القطاع الفعلي او الحقيقي من الاقتصاد بل يتعبه ويرهقه ويزيد من اعبائه لان الحركة الافتراضية تبتلع الحركية المالية الحقيقية وتذوبها وتبخرها , فأضحى الاقتصاد شبه متعفن والانتاج الحقيقي تراجع , ويتم اجمالا التركيز على السلع والخدمات والتي لا تمت بأي صلة للمتطلبات الاساسية والضرورية لحياة الانسان .
فيما المشكلة الثانية تكمن في الازدهار وزيادة الثروات في الاعتماد على المديونية والدين العالمي والاقتراض وظهور انواع عضالية من القروض , مع زيادة دائمة لهذا الدين وظهور المشاكل في تسديده نتيجة تفوق قيمة الدين وفوائد القروض على رأس المال الحقيقي , وهو الصورة الصريحة لتغلب المال الافتراضي على الواقعي , ما يضعنا امام مراحل متتالية متمثلة بجدولة الدين وزيادة الفوائد بالاضافة الى المشاكل في التصنيفات الائتمانية والدخول في آتون المفاوضات لدفع الفوائد المتراكمة على القروض قبل قيمة القروض ذاتها والتي لا تمس , ما يجعلنا بمتاهة غير متناهية محورها الزيادة في الديون والارتفاع في الفوائد والانخفاض في فرص الايفاء بها , الامر الذي يؤدي بشكل مفرط للانهيار المتواتر والاضافي بالعملة الوطنية وبالتالي التأخر القسري لسداد الديون وبالتالي انخفاض التصنيفات التأمينية مع اختلال في توازن العرض والطلب للعملة يراقفه شح عنيف للعملة الصعبة والدولار انه اذا التضخم الكبير .
لا شئ حتمي بالمطلق , فالتضخم المفرط هو ظاهرة نفسية تنعكس واقعيا وعمليا في اغلب الاحيان , فعندما تتوقع الشركات أو منصات الدراسات والمعايير والاعمال التجارية او حتى الخبراء بحدوث زيادة سريعة بالاسعار يعمد وبشكل فوري الى رفع الاسعار استباقيا , فينفق المستهلك امواله بسرعة اكبر , لانهم يتوقعون في ان اموالهم سوف تخسر قيمتها اذا انتظروا , فببساطة يهربون بخططهم الى الامام ويتهافتوا الى شراء المنتجات والمستهلكات بسرعة قبل ان يزيد ثمنها , ولهذا الامر تكمن السرعة في انفاق الاموال وهو خوفا من انخفاض قيمة العملة والمقرون بشكل متلازم بالخوف من الغلاء السريع لاسعار السلع والمنتوجات والخدمات .
والاشكالية المهمة هنا هي في مرونة الصمود لتحفيز الاستمرارية بما تبقى من سلاسل القيمة من خلال تأمين الاولويات فقط من الالتزامات الحياتية بالحد الادنى , ولا يمكن ذلك الا من خلال مسير تشابكي دقيق محليا اقليميا ودوليا عبر خطة نهوض بالاقتصاد اللبناني متلازمة للاصلاحات المطلوبة دوليا وتغييرا جذريا بالمنهجية التنفيذية المدخل العريض للاستقرار الشامل ( سياسيا , اقتصاديا , واجتماعيا ) , والسعي بالاقتصاد اللبناني نحو مصاف الاقتصادات الدائرية الناشئة ذات المحور التمكيني والابتكاري ، باعادة تحفيز القطاعات الانتاجية اللبنانية وثقل للموارد التي يتمتع بها لبنان واعطاء الاولوية لثروته الحقيقية بكل واقعية , والتي من خلالها يتمكن لبنان ان يؤمن ويكسب ويجذب العملة الاجنبية والتي تكون بدورها الرافعة الاساسية في مشوار اعادة الثقة وحصر التضخم وتحصين القيمة الوجودية للعملة الوطنية واطلاق جدي لنمو استراتيجي بات ظرفه صعب .

مبادروة ملتزمون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى