الإعلامي عبدالعزيز قاسم

ناصر الشثري.. أية سيرة!!

ناصر الشثري.. أية سيرة!!

 

اعلامي وكاتب صحافي :

 عبدالعزيز قاسم . 

ما زلت أتذكر تفاصيل اللقاء الأول لي مع معالي الشيخ ناصر بن عبدالعزيز أبو حبيب الشثري يرحمه الله، إذ ولجت -قبل عشر سنوات- الديوانية الشهيرة له، تلك التي لا تغلق أبوابها أبدًا، بكثير من الهيبة للرجل. كانت أول زيارة لي، حيث دعاني لها ابنه معالي الشيخ سعد الشثري، وإذ أنا بشيخ يشعُّ البشر من وجهه، وترتسم الطيبة المتناهية على محياه والوقار والرزانة.

بعد انتهائي من مصافحة من في المجلس، دعاني للجلوس بجانبه بكثير من الأبوية والودّ، وتحرَّجتُ جدًا، إذ المجلس يغصُّ ببعض كبار السن، وبعضهم عليهم “البُشوت”. عندما رأى تردّدي؛ كرّر دعوته لي بنبرة أعلى، فلم أجد بدّا من تلبية ما يريد، فرحب بي بكلمات قليلة، وانصرف لمن في المجلس يحادثهم وتركني.

الرجل بحكمته وخبرته بالناس؛ عرف تحرَّجي وارتباكي وأنا في ذلك المجلس الكبير الغاصِّ بضيوفه وأصحاب الحاجات، وظللت أتأمل في حديثه الرصين، مرتشفًا القهوة العربية التي بادر بها العاملون، ووجهاء القوم يفتحون موضوعًا تلو موضوع ويعلّقون عليه، والشيخ ناصر منصتٌ بكل الوقار، وإن علَّق فبكلمات قليلة.

التفتَ لي وقد هدأت نفسي، وبدأ يسألني بكل الحبِّ والأبوية، وأجيبه وقد انطلق لساني، وانبعث الإعلامي فيّ، ولكأني أعرف الرجل من سنوات عديدة، كان أعجوبةً بحقٍّ في التواضع والتباسط، بل والمفاكهة لمن في المجلس، إذ يتمتع بروح مرحة تتبدّى في بعض تعليقاته على ما يحدث في المجلس، وقد ورث عنه ذلك ابنه معالي الشيخ سعد.

من العجيب؛ أنني كرَّرتُ الزيارة بعد شهور طويلة، وإذا به يتذكرني ويسألني عن بعض ما دار بيننا في الجلسة الأولى، فأكبرتُ فيه ذلك يرحمه الله. ديوانيته تغصُّ بكل طبقات المجتمع من بادية وحاضرة، يقصدونه ومعهم ملفات وأوراق وقضايا، وهو بكل الأريحية يأخذها، ويعدهم بحلها، يخرج الجميع بعد تناول الغذاء أو العشاء وهم سعداء.

رحل معالي الشيخ ناصر الشثري قبل أيام (الأول من ذي القعدة 1442-11يونيو2021)، وبدأت أبحث عن سيرته لأبلّ نهمي للمعرفة عنه أكثر، وللأسف لم أجد كتابات كثيرة عنه، فالرجل لا يحب الأضواء أبدًا، رغم مكانته كمستشار الملوك، ورغم المكانة الرفيعة التي يحظى بها عند ولاة أمورنا، وتقديرهم العالي له.

ناصر الشثري.. أية سيرة!!

تتذكرون زيارات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان يحفظه الله له في بيته لمرات عدة، بل وزيارات عضيده أمير الرؤية ولي العهد محمد بن سلمان لمعالي الشيخ، وكان آخرها معايدة سموه له في بداية شوال، وسجلت الكاميرا كيف أن سموه -بكل تواضع وأدب جمّ- رفض إلا الجلوس بجوار الشيخ ناصر، قائلًا: “أنا واحد من عياله”.

لم يكن هذه التقدير من ولاة الأمر له، بدءًا من الملك خالد ثم الملك فهد ثم الملك عبدالله يرحمهم الله جميعًا، وأخيرًا مليكنا الكبير سلمان بن عبدالعزيز، والعمل كمستشار لهم طيلة كل هاته السنوات؛ إلا لما وجدوه عنده من علم وحكمة وعقل وبُعد نظر وتقدير للأمور، ولا غرو أن أطلق عليه لقب “مستشار الملوك”.

ناصر الشثري.. أية سيرة!!

سألت عنه صديقًا أثيرًا لي، ومقربًا منه، فأجابني إجابة بديعة، وقال لي: “لو أردت شخصية جمعت أعلى الخصال في حياتنا الدينية والاجتماعية والرسمية، وتمتّع بالحكمة وسمو الخلق والكرم اللامحدود، فضلًا عن عطفه للفقراء وتعهده لهم، السعي في فكِّ الرقاب، بجانب تمتعه بالدبلوماسية الرفيعة، لكانت الإجابة: معالي الشيخ ناصر الشثري”.

يكمل صديقي الأحبّ: “كرم الرجل، وحبه للخير وسعادته ببذله لا يمكن وصفهما، ويمكن لأي كاتب مثلك لو لازم معالي الوالد ناصر الشثري لثلاثة أيام فقط؛ لاستطاع تأليف كتاب كامل عنه، بسبب ما يراه من تعامل مع أصحاب الحاجات، وكيف ينزل كل إنسان مقامه، وكيف يحلّ المشاكل، ويبذل جاهه للإصلاح بين الناس”.

وأيم الله لقد صدق في قوله، إذا طيلة السويعات التي قضيتها في ديوانيته؛ طالعت كل ذلك، والعادة أن يتبرَّم الانسان منا إن أكثر عليه الطلب والسؤال، فكيف بعشرات أهل الحاجات يؤمّون منزله ويقصدونه بشكل يومي، وهو سعيدٌ بذلك، مستبشرٌ بهم، فاتحًا قلبه لهم قبل باب بيته. بحقًّ أعجوبة من الأعاجيب ذلك الرجل يرحمه الله.

د.غازي القصيبي يرحمه الله، حكى في كتابه “الوزير المرافق” نتفًا من قصص له مع معالي الشيخ ناصر الشثري، وربما كان أشهرها تلك الزيارة التي انتظما فيها مع الملك الصالح خالد يرحمه الله لزيارة ليبيا عام 1980، وجمعهم باص ركبوه جميعًا، وهم بطريقهم إلى الجبل الأخضر، ودارت سجالات هناك.

إذ كعادة العقيد معمر القذافي أراد التباهي بأنه “قرآني” والمراء في ذلك، فتناول السنَّة بالقدح، وانتقل للإسلام بأنه للعرب فقط، وليس على العجم أن يدينوا به، وانتقل لتعدد الزوجات، ومن بعدها تحديه بتأريخه الذي بدأه بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، لا هجرته. ومن تلك الفذلكات التي كان يجيدها القذافي، وتبجَّح بها أمام الملك خالد ومن كانوا في صحبته.

يروي القصيبي أن الملك خالد يرحمه الله انزعج تمامًا من تلك الأفكار، بيد أن بعضًا من الوفد السعودي قام بتفنيد ما ذكره، وقال بأن الشيخ ناصر الشثري كان أفصحهم، وأقواهم حجة، وردَّ عليه بالحجج العقلية والشرعية، وفند كل الشبهات التي ذكرها ذلك المتفذلك، ما أعاد للملك خالد البسمة في وجهه. رحمهم الله ذلك النفر، وجمعهم في مستقرِّ رحمته.

ذكر القصيبي في كتابه الآنف بعض تفاصيل ذلك السجال بين القذافي الذي كان مصرًّا على أنه “قرآني” وبين معالي الشيخ ناصر الشثري الذي فتح الله عليه بتفنيد تلك الشبهات، واحدة واحدة، وألهمه الله الحجة وراء الحجة، بيد أن من أضله الله لا يمكن له أن يقبل، ومات كلاهما، وأي عبرة في الخاتمة التي كتبها الله لكليهما!

القصيبي يرحمه الله، اشتهر بإخوانياته الشعرية التي تنبعث منه ارتجالًا، يُمطر بها صحبه وأحبته، وكان من ضمنهم معالي الشيخ ناصر الشثري، الذي له صنع عشاءً فاخرًا، وبعث به لمنزل القصيبي بمناسبة توليه وزارة العمل، فأرسل القصيبي لمعالي الشيخ أبياتًا من وحي ذلك العشاء، قال فيها:

نزُفُّ الشُكرَ أصنافًا
وأشكالًا وألواناً

فقدْ أوسَعتنا كرَمًا
ونُوسِع نحنُ شُكرانا

أتتنا منكْ ضِيافاتٍ
فرحَّبنا بما جَانا

وضيَّفنا بِها أهلًا
وأصحابًا وجيرانا

ولم نتركْ بفضلِ اللهِ
في الحارةِ جَوعانا

سَلمتَ لنا، أخي ناصر
كمْ أكرمتَ إخوانا

وحمدًا للذي أعطاكَ
وهَّابًا، وأعطانا

أما كرم معالي الشيخ ناصر الشثري يرحمه الله، وأسرة الشثري بالعموم، فيضرب بها المثل، ولا أنسى أن حفيده قال لي مرة: وهل يُغلق باب الشيخ؟! بالطبع ردّ معالي الشيخ ناصر على القصيبي بأبيات أنشر صورتها في موقعي بتويتر، بخطه الجميل الرائع.
يرحم الله الرجلين، كان رجلا دولة بحقّ.

ناصر الشثري كان تأريخًا لوحده، ومضى لربه، مصحوبًا بدعوات الفقراء وأصحاب الحاجات وكل الطبقات وعلية القوم، متمنيًا على أسرته توثيق حياته ومنهجه وحفظ بعض مواقفه التي لا ينبغي أن تغفل، فالرجل كان مدرسة في الخلق والعطاء والتواضع بحقّ، ورجل دولة ودبلوماسية مؤتمنا.

أتقدم بتعازيّ لمقام خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد، في فقيد الوطن معالي الشيخ ناصر الشثري، وكل العزاء لابنه معالي الشيخ سعد الذي يقفو خطا أبيه، ويستلهم نهجه في الحكمة وبثِّ العلم، ونشر الخير، والبذل للناس والسعي في مصالحهم، وكم كان مؤثرًا في الناس خروجه في قناة المجد قبل دفن أبيه، وعدم خلفه موعده مع البرنامج في لفتة نادرة لا يفعلها إلا الكبار نفوسًا، والتعازي كذلك لابنه الصديق رجل الأعمال خالد بن ناصر، وبقية الأبناء والبنات والأسرة.

مبادروة ملتزمون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى