“إيفرجراند” ونهاية النموذج الصيني “البناء ثم البناء ثم البناء”
كانت المباني غير المكتملة، التي شكلت مجمعا يسمى “صنشاين سيتي2″، تقف غير مأهولة منذ عام 2013 بعد نفاد أموال أحد المطورين وبعد أن وجد مطور عقاري آخر عيوبا في أعمال البناء. وقالت إحدى المقالات التي نشرت في صحيفة “كونمينغ” اليومية الرسمية بعد الهدم، “هذه الندبة الحضرية التي استمرت لما يقرب من عشرة أعوام قد اتخذت أخيرا خطوة مهمة نحو التجديد”.
هذه “الندوب الحضرية” شائعة في جميع أنحاء الصين، حيث تعاني شركة “إيفرجراند” – الشركة العقارية الأكثر مديونية في العالم – أزمة سيولة قد تكون قاضية. فالأزمة في الشركة، التي صنفت منذ عامين على أنها أكثر الأسهم العقارية قيمة في العالم، تسلط الضوء على السرعة التي يمكن أن تنهار بها ثروات الشركات والعيوب العميقة في نموذج النمو الصيني.
شركة “إيفرجراند”، على الرغم من الدراما العالية التي صاحبت انهيارها، مجرد عرض لمشكلة أكبر بكثير. قطاع العقارات الواسع في الصين، الذي يسهم 29 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، يعاني الإفراط في بنائه لدرجة أنه يهدد بالتخلي عن دوره طويل الأمد كمحرك رئيس للنمو الاقتصادي الصيني، وبدلا من ذلك، سيصبح عبئا عليه.
يقول لوغان رايت، مدير شركة “روديوم جروب” للاستشارات، ومقرها هونج كونج، إن هناك ما يكفي من العقارات الخالية في الصين لإيواء أكثر من 90 مليون شخص. ولكي نجعل هذه الصورة أكثر وضوحا، هناك خمس دول من مجموعة السبعة – فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة وكندا – يمكن لكل منها على حدة وضع سكانها بالكامل في تلك الشقق الصينية الفارغة مع بقاء حيز غير مستخدم.
يبلغ متوسط حجم الأسرة في الصين ما يزيد قليلا على ثلاثة أفراد. ويقول رايت، موضحا حساباته، “نحن نقدر مخزون المساكن الحالية غير المباعة في حدود ثلاثة مليارات متر مربع، وهو ما يكفي لإيواء 30 مليون أسرة، بشكل متحفظ”.
كانت الزيادة في العرض مشكلة لعدة أعوام. لكن الذي تغير هو أن الصين قررت العام الماضي أن هذه القضية باتت مزمنة لدرجة أنه تعين عليها أن تعالجها بصرامة. كما نفد صبر الرئيس الصيني شي جينبينغ من التجاوزات في قطاع العقارات، كما يقول المراقبون، حيث صاغت بكين “ثلاثة خطوط حمراء” لخفض مستويات الديون في هذا القطاع. ويتبين أن “إيفرجراند” أول ضحية كبيرة لهذه السياسة. فبينما قالت الشركة الأربعاء، إنها ستفي بالتزاماتها في الدفع لسند محلي واحد، ظهرت مرحلة في هذه الأزمة الكبيرة الخميس، عندما توجب على “إيفرجراند” دفع فائدة على أحد السندات بالدولار الأمريكي.
ومع التعثر الذي تواجهه الشركة، فإن تفكيكها يثير سؤالا أساسيا عن ثاني أكبر اقتصاد في العالم، هل نموذج النمو الصيني المدفوع بالعقارات – الذي يعد أقوى قاطرة في الاقتصاد العالمي – قد عجز عن السير؟
الإجابة، نعم، كما يقول ليلاند ميلر، الرئيس التنفيذي لشركة “تشاينا بيج بوك”، شركة استشارية تعمل على تحليل الاقتصاد من خلال بيانات الملكية. ويضيف، “القيادة في بكين أكثر قلقا بشأن النمو الصيني من أي شخص آخر في الغرب”.
ويقول ميلر، “هناك اعتراف بأن قواعد اللعب القديمة التي تتمثل في “البناء، ثم البناء، ثم البناء” لم تعد مجدية وأنها في الواقع تزيد من خطورة الموقف. ويبدو أن القيادة تفكر الآن في أنه لا يمكنها الانتظار أكثر من ذلك كي تشرع في تغيير نموذج النمو الحالي”.
يقول تينغ لو، كبير الاقتصاديين الصينيين في بنك الاستثمار “نومورا”، إنه لا يتوقع أن تؤدي متاعب “إيفرجراند” إلى انهيار اقتصادي. لكنه يعتقد أن محاولات بكين للانتقال نحو نموذج نمو آخر يمكن أن تتسبب بانخفاض كبير في النمو السنوي خلال الأعوام المقبلة.
ويقول لو، “من غير المحتمل أن يكون هناك توقف مفاجئ”. واستتبع قائلا، “لكنني أعتقد أن معدل النمو [السنوي] المحتمل للصين سينخفض إلى 4 في المائة أو حتى أقل في الفترة بين عامي 2025 و2030”.
يوضح رايت أن قطاع العقارات أصبح يشكل تهديدا للاستقرار المالي، والاقتصادي، والاجتماعي – فقد أثار احتجاجات في عديد من المدن. ويضيف رايت، “إنه لمن الصعب جدا تقديم سرد مقنع مفاده أن النمو المحتمل للصين سيتجاوز 4 في المائة في العقد المقبل”.
ويردد ميلر صدى هذا الشعور، “نحن على وشك رحلة متأرجحة في السياسة والنمو الاقتصادي”. وأضاف، “لن أتفاجأ إذا بلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي بعد عقد من الآن 1 أو 2 في المائة”.
إذا ثبتت صحة هذه التوقعات، فإن “معجزة” النمو الصيني في خطر. وفي العقد الممتد من عام 2000 إلى عام 2009، بلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي للصين 10.4 في المائة سنويا. ثم تراجع هذا الأداء الممتاز خلال العقد بين عام 2010 وعام 2019، لكن الناتج المحلي الإجمالي السنوي كان لا يزال ينمو بمتوسط 7.68 في المائة.
أي انخفاض في النمو سيكون محسوسا بسرعة فائقة في جميع أنحاء العالم. لطالما كانت الصين المحرك الأكبر للازدهار العالمي، حيث أسهمت 28 في المائة من نمو الناتج المحلي الإجمالي في جميع أنحاء العالم بين عامي 2013 و2018 – وهو أكثر من ضعف نصيب الولايات المتحدة – وفقا لدراسة أجراها صندوق النقد الدولي.
يقول جوناس غولترمان من “كابيتال إيكونوميكس” شركة للأبحاث، “حتى لو تجنبت الصين أزمة حادة ومفاجئة، فإن آفاق هذه الأزمة على المدى المتوسط ستكون أسوأ بكثير مما هو معترف به بشكل عام”.
تجاوز “الخطوط الحمراء” للرئيس شي
تنطوي المخاطر التي تنبثق من ملحمة “إيفرجراند” على كل من العدوى المالية – خاصة في سوق السندات بالدولار الأمريكي في الخارج – واحتمال أن يضرب قطاع العقارات المتعثر بعض الأعضاء الحيوية للاقتصاد الصيني، ما قد يؤدي إلى انخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي في الأعوام المقبلة.
إن تداعيات الأزمة كبيرة بالفعل. فقد أدى انخفاض سعر سهم “إيفرجراند” إلى خفض القيمة السوقية للشركة من 41 مليار دولار العام الماضي إلى نحو 3.7 مليار دولار حاليا. وأدت المخاوف بشأن احتمال انهيارها إلى زيادة كبيرة في عمليات البيع في الأسواق العالمية هذا الأسبوع. وينتظر نحو 80 ألف شخص في الصين يمتلكون نحو 40 مليار رنمينبي في منتجات إدارة الثروات الخاصة بالشركة بقلق لمعرفة ما إذا كانت “إيفرجراند” ستفي بالتزاماتها في السداد. ويستعد حاملو السندات في الخارج للتخلف عن السداد، ربما في وقت مبكر من الخميس، مع استحقاق سند واحد لسداد الفائدة يتم تداوله بنحو 30 في المائة من قيمته الاسمية.
لكن الآثار التي يحتمل أن تكون أطول أمدا تنجم عن الانخفاض الأوسع في سوق العقارات في الصين. ومن الواضح أن قطاع العقارات يمر في حالة تدهور حادة، حيث انخفضت المبيعات في 52 مدينة كبيرة 16 في المائة في النصف الأول من أيلول (سبتمبر) على أساس سنوي، ما أطال انخفاضا 20 في المائة في آب (أغسطس)، وفقا لبيانات رسمية.
وتظهر الأرقام الرسمية أن الاتجاه الأكثر أهمية بالنسبة إلى الاقتصاد السياسي الصيني هو انهيار مبيعات الأراضي من قبل الحكومات المحلية، الذي انخفض 90 في المائة على أساس سنوي في أول 12 يوما من شهر أيلول (سبتمبر). وتولد مبيعات الأراضي هذه نحو ثلث عائدات الحكومة المحلية، التي تستخدم بدورها للمساعدة على دفع رأس المال والفائدة على نحو 8.4 تريليون دولار من الديون الصادرة عن عدة آلاف من آليات التمويل الحكومية المحلية. وتعمل هذه الآليات كدينامو غير مرئي في كثير من الأحيان للاقتصاد الأوسع، فهي تجمع رأس المال من خلال إصدار السندات التي تستخدم بعد ذلك لتمويل مشاريع البنية التحتية الضخمة.
يقول لو من بنك “نمورا”، “نتوقع أن تسوء عائدات مبيعات الأراضي أكثر بكثير”.
لدى هذه القدرة المتضائلة للحكومات المحلية على جمع التمويل للإنفاق على البنية التحتية القدرة على كبح النمو الصيني إلى حد كبير. إذ إن الاستثمار في الأصول الثابتة، الذي بلغ العام الماضي 51.9 تريليون رينمينبي (8 تريليونات دولار)، يشكل 43 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
وتتضح المحنة بالفعل في سوق سندات خارجية بالدولار الأمريكي، يتم فيها تداول نحو 221 مليار دولار من الديون التي جمعها عدة مئات من مطوري العقارات الصينيين. ويقدر حاليا أن أجزاء كبيرة من السوق ستتخلف عن السداد. ويقول رايت، “يتم تداول 16 في المائة من السوق بمردودات تزيد على 30 في المائة، ويتم تداول 11 في المائة من السوق بمردودات تزيد على 50 في المائة”.
ويضيف أن المردودات التي تزيد على 50 في المائة تشير إلى احتمال حدوث حالات تخلف عن السداد.
وفي نهاية المطاف، يعتمد مصير مثل هذه السندات، وتقريبا جميع الفروع الأخرى من الضائقة في سوق العقارات الصينية، على بكين. فالدولة الصينية تمتلك تقريبا جميع المؤسسات المالية الكبيرة في البلاد، ما يعني أنه إذا أمرتهم بكين بإنقاذ شركة إيفرجراند أو غيرها من شركات العقارات المتعثرة، فسيتبعون الأوامر.
في بعض الأسواق الخارجية، اكتسبت الفكرة القائلة بأن محنة “إيفرجراند” قد تنذر بـ”لحظة بنك ليمان” – مع التذكير بالفوضى التي أعقبت انهيار بنك الاستثمار الأمريكي ليمان براذرز قبل 13 عاما – اكتسبت زخما. لكن بالنظر إلى نفوذ بكين ومصالحها الخاصة، فإن التشبيه لا يناسب بسهولة.
يقول هي وي، محلل في شركة “جافيكال” للأبحاث، “ما لم يسيئ المنظمون في الصين إدارة الموقف بشكل خطير، فإن أزمة نظامية في القطاع المالي للبلاد ليست مطروحة على الورق”.
في الواقع، إن السبب الرئيس لأزمة “إيفرجراند” والتراجع في قطاع العقارات الأوسع هو بكين نفسها. فـ “الخطوط الحمراء الثلاثة” التي أعلنتها حكومة الرئيس شي العام الماضي تقضي أنه يجب على المطورين الحفاظ على مستويات الديون ضمن حدود معقولة.
وعلى وجه التحديد، تقول إن نسبة المطلوبات إلى الأصول يجب أن تكون أقل من 70 في المائة، ويجب أن تكون نسبة صافي المديونية إلى حقوق الملكية أقل من 100 في المائة، ويجب أن تكون نسبة السيولة إلى الديون قصيرة الأجل 100 في المائة على الأقل. وفي حزيران (يونيو)، كانت “إيفرجراند” تفشل في جميع المقاييس الثلاثة، وبالتالي منعت من جمع ديون إضافية – ما تسبب في أزمتها الحالية.
“الرخاء المشترك”
إذا كان صحيحا أن بكين السبب الرئيس لمأزق “إيفرجراند”، فمن المنطقي أنها تستطيع إنهاء الانهيار الحالي للسوق من خلال رفع قدمها عن حنجرة قطاع العقارات.
لكن محللين يقولون إن القوى الهيكلية العميقة في الاقتصاد أقنعت صانعي السياسات في الصين بأن العقارات لم يعد بإمكانها أن تكون دافعا موثوقا للنمو الاقتصادي المستدام. وهذا ليس فقط بسبب عبارة الرئيس شي الشهيرة “المنازل للعيش فيها، وليست للمضاربة”، التي وردت في خطاب عام 2017.
فمن ناحية، تغيرت صورة الطلب تماما عما كانت عليه عندما استحثت بكين إصلاحات السوق الحرة في أواخر التسعينيات التي أحدثت أكبر طفرة عقارية في تاريخ البشرية.
عدد سكان الصين بالكاد ينمو. في عام 2020، ولد 12 مليون طفل فقط، انخفاضا من 14.65 مليون طفل قبل ذلك بعام في بلد يبلغ تعداد سكانه 1.4 مليار نسمة. وقد يصبح هذا الاتجاه أكثر وضوحا خلال العقد المقبل حيث من المتوقع أن ينخفض عدد النساء في ذروة سن الإنجاب – بين 22 و35 عاما – بأكثر من 30 في المائة.
يتوقع بعض الخبراء أن معدل المواليد يمكن أن ينخفض إلى أقل من عشرة ملايين سنويا، ما يؤدي إلى انخفاض عدد سكان الصين بشكل مطلق ويزيد من ضعف الطلب على العقارات.
يقول هوزي سونج، محلل في مؤسسة “ماكروبولو” الفكرية مقرها شيكاغو، إن الوضع يتفاقم بسبب ظاهرة “المدن المتقلصة”. ذلك أنه بعد نحو ثلاثة عقود غادر خلالها مئات الملايين من الناس قراهم الريفية ليستقروا في المدن، تضاءلت الآن أكبر هجرة في تاريخ البشرية إلى حد كبير.
يقول سونج إن نحو ثلاثة أرباع المدن في الصين تشهد انخفاضا سكانيا. “بعد عقد من الآن، حتى لو افترضنا أن بعض الناس سيغادرون إلى المدن النامية، سيظل أكثر من 600 مليون مواطن صيني يعيشون في مدن متقلصة”.
إن الصين تواجه تحولا محفوفا بالمخاطر. حيث يقول المحللون إنها بدأت في تحويل نموذج النمو الخاص بها بعيدا عن الاعتماد المفرط على العقارات إلى مزيد من محركات النمو المفضلة مثل التصنيع عالي التكنولوجيا ونشر التكنولوجيا الخضراء.
هنا مرة أخرى، يأتي الزخم من الرئيس شي. فقد تم إصدار قائمة من ثماني أولويات بعد اجتماع التخطيط الاقتصادي في أواخر عام 2020 لم يشجب فقط “التوسع غير المنظم لرأس المال” – الذي يفهم أنه كان رمزا للمضاربة في العقارات- لكنه دعا أيضا إلى الابتكار التكنولوجي والسعي إلى حيادية الكربون.
ويقول محللون إن مثل هذا التحول قد يستغرق عدة أعوام. لكن من الواضح من تحذيرات الرئيس شي الأخيرة بشأن حاجة الصين لاتباع “الرخاء المشترك” أنه جاد. لقد تم إلقاء اللوم على نزعة العقارات إلى قفزة في القيمة في المناطق المرغوبة بينما تظل أقل في المناطق منخفضة الإيجار، لتوسيع فجوة عدم المساواة بين الأغنياء والفقراء.
ويقول ميلر، “إن شعار: الرخاء المشترك – هو تغيير وصفي يمهد الطريق لتحول نموذج النمو. وهذا يوضح أن الانخفاض في نمو الناتج المحلي الإجمالي ليس فشلا للحزب الشيوعي الصيني”.
ومع ذلك، يعاني الناس العاديون في جميع أنحاء الصين آلام انهيار سوق العقارات في البلاد. إن شو، وعمرها 36 عاما، التي طلبت عدم الكشف عن هويتها بالكامل، تعيش في مدينة شينيانغ في وسط البلاد وتعمل سكرتيرة في مصنع محلي. اشترت والدتها منتجا استثماريا عالي العائد من “إيفرجراند” للمساعدة على تغطية الفواتير الطبية لمرحلة متأخرة من سرطان الرئة.
لكن العوائد الموعودة البالغة 7.5 في المائة من هذا الاستثمار، الذي كلف 200 ألف رنمينبي، لم تتحقق. وبدلا من ذلك، ترفض “إيفرجراند” الدفع لأنها تحتفظ بالأموال لتجنب حالات التخلف عن السداد الضخمة المحتملة.
تقول شو، “لقد وضع والداي كل ما لديهما في إيفرجراند، ولم تعد هذه مجرد قضية اقتصادية، إن هذه بالتأكيد قضية اجتماعية ضخمة. ستكون هناك عواقب وخيمة إذا لم يتم حل المشكلة بشكل صحيح”.
وتضيف، “إذا تدهور الوضع الصحي لوالدتي بسبب هذا، فسأحارب إيفرجراند كل يوم”.