في أنديجان.. بين سكاكين “شهرخان” والطبق الأشهر “المنتو” . بقلم الاعلامي وكاتب صحافي: عبدالعزيز قاسم
في أنديجان.. بين سكاكين “شهرخان” والطبق الأشهر “المنتو” .
بقلم: عبدالعزيز قاسم
اعلامي وكاتب صحافي
بمجرد دخولنا ولاية أنديجان، مررنا على مدينة صغيرة، ولكنها الأشهر على مستوىأوزبكستان، وظني على مستوى آسيا الوسطى، وكما تشتهر مدينة مرغلان بالحريرالطبيعي، فإن مدينة “شهرخان” تشتهر بصناعة أفضل السكاكين والخناجر على مستوىالمنطقة، وأخذ السائق يمدح مهارة أهل المدينة في هذه المهنة التي توارثوها من مئاتالسنين،
وكمثل الخبز البخاري الذي تحدثت عنه، هنا بعض العوائل المتخصصة في صناعةوإنتاج السكاكين المميزة، وكنت أظن الرجل يبالغ، ومن حقه أن يتفاخر، ولم أعطه كثيراهتمام، بيد أنه عندما اتجه بنا إلى السوق المركزي القديم هناك، يدعونه “البازار“، ونزولنالسوق السكاكين، رأينا الباعة يتجاذبوننا، ورأيتُ أمام عيني، مئات الأنواع من المُديِّوالسكاكين والخناجر والسيوف، مصنوعة من معادن مصقولة وقوية، مزخرفة بنقوش،ولكل واحدة منها أغمادٌ بحسب أحجامها،
وخيّرني أحد الباعة، كنوعٍ من التسويق الحي والمباشر، بين السكاكين المعروضة فيدكانه، لأعطيه إياه، ومن ثم يقطع ورقة تصوير (A4) أمامنا، وبالفعل فعل ذلك، كنوع منالثقة، أن ما يباع هنا هو الأحدّ على الاطلاق. بالطبع صوَّرت ذلك وسارعت ببثه، ولكأنالسكين التي قطع بها، “مشرط” الأدوات المكتبية الحادة جدًا.
مئات الأشكال التي تتعجب منها، ويقينًا أن أحبتنا ممن يعشقون البرَّ والتخييم،سيعجبهم هذا المكان، ولن يغادروه إلا بشراء عشرات السكاكين، فبعضه يصلح لتزيينالمجالس، من فرط فخامة مظهره، وروعة صنعه، وطوله الأقرب إلى السيف، وبديع النقشاتالذهبية على أغماده، علمًا بأن بعض مقابضه من قرون الحيوانات هناك، ومطعّمًةبفصوص براقة، ونقوش بديعة، ومتأكدٌ أنه سيعجب هواة التراث والسيوف والخناجر حدّالافتتان.
*سيوف مزركشة*
السيوف في سوق “شهرخان” لا تشبه السيوف العربية التي نعرفها، فالسيوف التيأمسكها بالكاد من ثقلها هنا، عريضة وقصيرة وبها بعض الانحناءة، بينما السيوفالعربية نحيلة وطويلة ومستقيمة، والعرب تجلّ السيف كثيرًا، لدرجة أنهم يسمونها،ويفتخرون بها في أشعارهم، ويعتنون بها –كما الخيل– ويتغنون بها، وقد أُحصي مايقارب ثلاثمائة اسم عربي للسيف وحده، من فرط حب العرب له وفخرهم به، وكانوايصنفون السيوف على درجات، ويصنعونها من الذهب والفضة ولحديد، ويصقلونهاويضعون عليها الحلي،
وربما أشهر السيوف في التاريخ “ذو الفقار” سيف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،وكان من أحبّ السيوف له، وغنِمَه في معركة بدر.
وللأسف لعدم تعمقي في الأدب الأوزبكي أو مصادفتي أديبًا متخصصًا في التراث الأدبيالأوزبكي ليحكي عن مكانة السيف في تراثهم، مقابل ما يزخر أدبنا العربي بآلاف الأبياتالتي تذكر السيوف، وباتت رمزًا للشجاعة والإقدام، ولا يُذكر السيف في أدبنا العربي، إلاوتنتصب الأبيات الخالدات لعنترة بن شداد (شاعر وفارس جاهلي)، عندما صوّر حبيبتهعبلة، وهو في أتون المعركة وعزّ القتال، بالسيف:
*وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ*
*مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي*
*فَوَدَدتُ تَقبيلَ السُيوفِ لأَنَّها*
*لَمَعَت كَبارِقِ ثَغرِكِ المُتَبَسِّمِ*
الخناجر هنا في “شهرخان” فاخرة، فهي مصقولة ومزركشة، ويعتنون بها بشكل لافت،ويقينًا أنها ستسحر من يدمنها ويعشق اقتناءها، والخنجر في الثقافة العربية لا يزال لهمكانه حتى اليوم، خصوصًا في منطقة الجنوب عندنا بالسعودية، وكذلك في اليمنوعُمان بالخصوص. فالرجل هناك لابدّ له أن يتمنطق به –خصوصًا العماني واليماني– فيحفلاتهم الرسمية، وإن كان الخنجر قديمًا يُحمل أساسًا للدفاع عن النفس، فإنه حاليًا يُعدّمن كماليات الأناقة، ولوازم الوجاهة التي لا يُستغنى عنها، بل من أهم مفردات الأناقةالذكورية لدى تلكم القبائل والأقوام.
*في السوق الشعبي*
ولأن الزيارة لم يك مخططًا لها، فقد أخذت منا ثلاث ساعات على الأقل، وكما أخبرتكم فإنالنهار كان قصيرًا كوننا في فصل الشتاء، وانطلقنا مباشرة إلى وسط البلدة، وقال لنادليلنا الأخ “عبدالغفور” إن هذه البلدة تشتهر بصنع “الصَمْصَة” و“المنتو“، وذهب بنالمحلٍّ هناك في قلب البلدة القديمة، وبسبب الوقت المتأخر الذي انطلقنا منه، ولمّا نصل بعدإلى نمنكان، قلت بضرورة الذهاب وعدم الجلوس، والاكتفاء بالأكل السريع، ما نقول عليهفي شعبياتنا “أكل على الواقف“،
وهو ما حصل. فرأيتنا ونحن في وسط البلدة وأمام الطاهي الذي يخبز “الصمصة“،نتناولها مباشرة وهي خارجة من التنور الحار، ويا للذتها وطعمها الخرافي!، ونسيتُ كلما قيل عن خوارم المروءة، ومقولة ابن سيرين (تابعي جليل) الشهيرة:
*”ثلاثة ليست من المروءة: الأكل في الأسواق، والإدهان عند العطار، والنظر في مرآةالحجام“.*
فتلك ربما كانت في عهده، ورددتها بأن الأكل في الأسواق بات مما عمّ وقُبل وشَاع، إلا أننيفي داخلي كنت متحرّجًا أن آكل والناس تنظر لي، بسبب لباسي السعودي الذي يميزني. تجاهلت ذلك ورأيتني أغشى المطعم الشعبي ذلك، وأدخل تجاه مطبخهم العتيق، وأرىقدور “المنتو” الخاصة والكبيرة، وأرى تلك الأفران من الآجرّ والطين، والصواني الفخاريةالتي يقدَّم فيها الطعام. مطعمٌ شعبيٌ أوزبكيٌ حقيقي، له لذته ونكهته ومناخه الخاص،لذلك لا غرو أنه مزدحمٌ بالناس، وقد ملأوا الطاولات داخل الصالة المبنية من طوب اللِبنالتي نعرف، ما يزيدك شعورًا بعتق المكان، لتتناول طعامًا بنكهة تراثية،
ولكن السابلة لم تتركنا، فباتوا يطالعوننا ونحن (نتهاذر) ونضحك ونأكل الصمصةالساخنة في الشارع، وتمتمتُ: بلى والله إنها لمن خوارم المروءة! فأخذت بعضي وأسرعتإلى السيارة، لآكل ما انتهبته من الرفقة، متسترًا عن أعين الناس.
*”المنتو” الطبق الأشهر*
أي مطعم بخاري لدينا في السعودية، لا يقدم أكلة “المنتو” و“الصمصة” أو “اليغمش“، لايُعد مطعمًا بخاريًا، فـ“المنتو” لها شعبية كبيرة في المائدة السعودية، وطبعًا تغيّرت،وأضيفت لها بعض الإضافات لتتلاءم والذائقة السعودية، ولكن ما أكلته هناك في بخارى،كان مذهلًا جدًا.،
وأكلة “المنتو” ترجع أصولها إلى الصين، وهي نوع من الخبز على البخار، محشو باللحمالمفروم والبصل. وهي تصنع من دقيق القمح المقشور، مع الماء وخميرة، وأهم ميزة فيهاأنها تُطبخ على بخار الماء، لذلك لها قِدرٌ خاص ذو طبقات. وحبة “المنتو” يتراوح حجمهامن 4 إلى 15 سم، وتكون لينة ورقيقة، وهنا يتمايز الطهاة، بحسب ما تكون لينة وكميةالحشي فيها، ففي البيوت تكون صغيرة إلى حدٍّ ما، ولكنها في المطاعم تكون أكثر أناقةوأكبر،
ويتفرع من “المنتو” هذه بعض الأكلات البخارية التي تُشبهها، فهناك “منتو كاوا“، وهونفس “المنتو” المعروف، ولكن الحشوة تكون من القرع المفروم المخلوط بالفلفل الأسود،وشخصيًا أعشق كثيرًا هذه الأخيرة، فهي لذيذة، وأستغرب عدم شهرتها.
من الأكلات الشبيهة بـ“المنتو” كذلك، ما يُعرف بـ“الخُوشَن“، وهو قريب الشكل من“المنتو“، ولكن بشكل أكبر، إذ يُقلى في الزيت، ثم يُطبخ في القدر الخاص بـ“المنتو” ذيالطبقات، الذي يعتمد على بخار الماء في طهيه.
أيضًا هناك أكلة بخارية، تُسمى “الجُوَاوَا“، وهي عبارة عن عجين بداخله لحم، تُسلقبالماء، وتُقدم إما بالخل أو اللبن.
كل هذه الأكلات قريبة الشبه بـ“المنتو“، وثمة أكلة أخرى عجيبة، اسمها “اليُوطازا“، وتكونأكبر، وتُغطى بالكراث، وتُطبخ بالبخار أيضًا، ولكن يُرفق معها إيدامات خاصة، تعطيهانكهة ولا أروع.
كنت في بيتي بجدة، وأثناء عملي الإعلامي، أقيم مأدبة عشاء كل أسبوع، لضيفي الذيأستضيفه في برنامجي الأسبوعي، وتكرمني نخبة من الأصدقاء من المثقفين السعوديينوالصفوة، بحضور الأمسية على شرف ضيفي في البرنامج، وكنتُ أقدم لهم المائدةالبخارية، ومن ضمنها “المنتو” هذا، فلا يبقى منه شيء، لشهيته وطيبه ولذته، والحمد لله.
تغريدات
عبدالعزيز قاسم
اعلامي وكاتب صحافي
1
مقالتي اليوم، من كتابي الأخير: أوزبكستان منجم العلماء" الذي صدر قبل شهر عن مكتبة الرشد الرائدة، وهي بعنوان:في أنديجان..
بين سكاكين "شهرخان" والطبق الأشهر "المنتو"بقلم: عبدالعزيز قاسم
من يود اقتناء الكتاب، عبر المتجر الالكتروني لمكتبة الرشد:https://t.co/GY6Kuxzr0l pic.twitter.com/0lbwTkSviu
— عبدالعزيز قاسم (@azizkasem) October 20, 2021
مقالتي الجديدة اليوم مأخوذة من كتابي الجديد في أدب الرحلات “أوزبكستان منجمالعلماء.. سياحة في بلاد الإمام البخاري” الذي صدر قبل شهر عن “مكتبة الرشد” الرائدة،ويمكن طلب الكتاب عبر المتجر الالكتروني لمكتبة الرشد، على الرابط:
https://rushd.sa/products?search=%D8%B9%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B2%D9%8A%D8%B2%20%D9%82%D8%A7%D8%B3%D9%85