المضافات.. عراقة الاسم ورفعة العائلة
المضافات.. عراقة الاسم ورفعة العائلة
مقالتي اليوم تكملة لما قبلها والتي كانت بعنوان:
(الضيافة والمضافات في نجد.. أي شرف!!)، وهي مقتطفة من كتابي الذي سيطبع قريبا: (سليمان وعبدالعزيز القاسم.. قصةكفاح وملحمة إخاء)، ومقالة اليوم تتعرض لبعض بيوتات الضيافة في القصيم قبلسبعين عامًا، وما زال بعضها للآن،
بقلم الإعلامي وكاتب صحافي: عبد العزيز قاسم
لم أكُ أتصور التفاعل الكبير للمقالة الفارطة التي تحدثت عن الضيافة والمضافات في نجد،ولا غرو أن الكرم قيمةٌ عاليةٌ وطبعٌ أصيلٌ في أهل هذه الأرض، ويتناقل الناس أخبار الكرماءومواقفهم.
وأعيد التأكيد أن الكرم ليس محصورًا في نجد والقصيم؛ بل هو ممتدٌ لكل أجزاء هذهالجزيرة التي منَّ الله عليها بالرسالة، ويذكر لي أحد كبار السنِّ كيف أن أهل الجنوب منبلادنا الغالية كانوا يتسابقون لضيافة حجاج اليمن الذين يصلون لمكة دون أن يفتحغالبهم أجربة الطعام التي تزودوا بها، لأن قرى الجنوب تتبادر لضيافتهم وهم بطريقهمللحج.
ولأن الكتاب مخصوص بعائلة القاسم التي تعود أرومتها للقصيم، حصرت الحديث عنهذه المنطقة الغالية من بلادنا، داعيًا الكتبة والباحثين لرصد بيوتات الكرم والضيافةوأهلها في كل منطقة، فالمال ذهب وفني، ولكن ذكر أولئك الكرماء المبادرين باقٍ يلمعكالذهب، ودعواتنا متصلة لهم.
*مضافات باقية*
أعود إلى الباحث عبد الله أبا الخيل، الذي يشير لي إلى جزئيّة ساعدت في بقاء واستمرارتلكم المضافات في القصيم، ذلك أن –أغلبيّتها– تعود لأسرة متعدّدة الأفراد، يشاركونجميعهم فيه، فيتشارك الإخوة جميعًا في حمل أكلاف تلك الضّيافة، فتسهل عليهم حينها،وهناك –بحسب أبا الخيل– من يكون موسرًا فيحملها وحده.
للأسف –الكلام لمؤلف الكتاب– أن بعض أبناء تلك العوائل لم يحافظ على الإرث العائلياللامع الذي تركه الآباء، وأهمله، بل وعمل بضده وانعكس على العائلة وسمعتها، ولكنالأكثرية حافظت، ولم تخل عائلة من فردٍ نبيلٍ، في جيناته الكرم، حمل على عاتقه ذلكالإرث، رغم الأكلاف الباهضة عليه.
طلبت من الباحث الصّديق أبا الخيل أن يعدّد لنا بعض أَشْهَر تلكم المضافات في تلكالفترة، امتنع وقال بخشيته أن ينسى أحدًا، فبادرته، بأنّ الذّكر لمجرد المثال فقط لا الحصر،فأجابني، وقال: “كثرت المضافات حول بريدة، بسبب أنّها البلدة الأكبر في منطقة القصيممن أزمنة بعيدة، ويؤمّها النّاس، ويتبضّعون منها ويبيعون فيها، ففي شرق بريدة، هناكمضافة (صالح الفوزان) في (خب القبر)، للنّاس الآتين من (الشّماسيّة)، وهناك في (رْوَاقْ) مضافتا عائلتَي (القاسم) و(مبارك الحميد)، وأيضًا قريبًا منهما في (الصّباخ) عائلة(المديفر)، وهناك مضافة (العميريني) في (القصيعة)، للآتين أو الذّاهبين لعنيزة. أمّابالنّسبة للغرب فهناك مضافة (جار الله الفايز)، في (المريدسيّة)، وتوجد قريبًا منها، مضافة(ضراس) وهم: (عيال عبد العزيز الخريف الوايل التويجري)، و(وايل العمير التّويجريوعياله) وعيال (إبراهيم العبد الله آل محمّد التّويجري) للذّاهبين إلى (البكيريّة) أو(القرعاء).
* كافِلُ الْأَيْتامِ *
ويكمل أبا الخيل سرده تلك المضافات التي مضى روّادها، وبقي الناس يلهجون بالدّعاءلهم والذّكر الحسن لهم، فيقول: “وبالنّسبة للشّمال؛ هناك مضافتا (عيسي الرّميح)، و(عبدالرّحمن الرّاضي) في (قصيباء)، وأمّا في (القوارة) فهناك مضافة (عبد الله بن حجّاجالجهيم)، وفي (الطّرفيّة) هناك مضافة (عبد الله الوايل التّويجري)، وأيضًا مضافة أميرها(فهيد السليمان التّويجري)، وكان رجلًا كريمًا، وركبته الديون لكرمه، واشتهرت عنه كفالةأيتام بلدته، وقيل: مجموع من كفلهم بلغوا ٢٥ يتيمًا، منهم والدتي وخالتي؛ لأنّه عمّ جدّيلأمّي، رحم الله الجميع“.
ويواصل الباحث في شؤون وتأريخ القصيم الشّيخ عبد الله أبا الخيل ذكر تلك المضافاتمن وحي ذاكرته، ويقول: “وفي (الشّقّة السّفلى) مضافة (أميرها سند الحصيني). وأمّا في(عين ابن فهيد بالأسياح) فهناك أميرها ( محمّد الرعوجي) الملقّب: بــ (أبو مثعوبة)، وهوالقِدِر الذي له (ميزاب)، وكان الرّعوجي يسكب السّمن من خلاله كي يدسِّم الطّعام، ويتلذّذالنّاس به ويشبعوا، ويعتبر ذلك من المآثر وزيادة الكرم، وتوجد كذلك مضافة (علي المشاريالفهيد وأولاده)، وفي (عنيزة) هناك مضافة (عبد الرّحمن المانع) وما زالت مستمرّة حتّىبعد وفاته، وفي (المذنب) مضافة أميرها فهد العقيلي، وسليمان بن إبراهيم الشّايع (المزعل) وما زالت قائمة بعد وفاته. أمّا في (الرّبيعيّة) فهناك مضافة الأمير (إبراهيم بن مهنا أباالخيل) الملقب: (بارد العيش)، وأيضًا مضافة أميرها (عبد الله الحمود البازعي)، وفي (غربالرّسّ) هناك مضافة أميرها (ابن عقيل) وإخوته وأبناءهم، والكثير من تلكم المضافات التيأمليها عليك من عفو الخاطر وما أسعفتني به الذّاكرة، وإنّما أمليتها من باب التمثيلفقط“.
*مَضافَةُ الْجَرْبوع*
من جهته، شارك معنا الباحث عثمان الهبدان، المتخصّص في تاريخ القصيم، وقال: “أشهرالمضافات في بريدة والمستمرّة ليومنا هذا، هي مضافة (الجربوع) بوسط البلد، بل عائلة(الجربوع) هذه أوّل من نفّذ مشروع إفطار صائم في مسجد (حسين العرفج) بــ (الجردة) الذي أسّس في عام 1334 هـ، ومنذ تأسيس ذلك المسجد من تلك الأعوام البعيدة كانوايُفطّرون الصّائمين، وكان هذا المسجد عبارة عن فندق، فكانت البادية ومن لا مأوى له،ينامون في هذا المسجد، وأدركت ذلك وأنا صغير في نهاية الثّمانينات الهجرية وأوائلالتّسعينات، واستمرّت الضّيافة إلى يومنا الحاضر، يستمرّ الأبناء والأحفاد من هذهالعائلة الكريمة في ضيافة النّاس، كان إبراهيم وعبد الله وصالح بن سليمان الجربوع ثمّابنهم فهد العبد الله، والآن أحفادهم مستمرّين… فوفق علمي أنّ المضافة الوحيدة المستمرّةمن تلك السّنوات البعيدة في بريدة هي مضافة (الجربوع)، وطالما كرَّر العمّ إبراهيم بنسليمان الجربوع، وهو من وجهاء بريدة، هذه المقولة التي اشتُهرت عنه: “سماطنا مانجلس عليه لوحدنا” يقصد بأنّه لا يأكل في سفرته إلّا مع ضيوف.”
ويؤكّد الباحث عثمان الهبدان أنّ بقيّة الذين فتح أجدادهم المضافات، وكانت قِبلةللمسافرين وأبناء السّبيل والطّرقيّة، يبادر أصحاب تلك المضافات بفتح بيوتهم لهم، أغلقتولم يهتمّ بها الأبناء والأحفاد، وانتهى معظمهم إلى دعوة الضّيوف من معارفهم وقراباتهم–إن أتوا– أن يتفضّلوا عندهم، وهؤلاء كثيرون“.
ويسوق الباحث الهبدان اسمًا آخر لا يزال مفتوحًا في “الخضر“، وهي بلدة قريبة من“رْوَاقْ” لعائلة الدّباسي، وصاحب هذا البيت يلقّب بــ“مهجوج“، وهي عاميّة نجديّة تعني“مفتوح“، وهو نوع من الثّناء والمديح له؛ لأنّ باب بيته مفتوح للضّيوف دائمًا.
وسألت الباحث عبد الله أبا الخيل عن سبب اندثار كثير منها، فلم نعد نسمع عن تلكمالمضافات، فيجيب أبا الخيل: “المضافات في كلّ زمان ومكان ولم تنقطع، لأنّها أصلٌ فيحياة الإنسان، وقد يكون هناك أناسٌ اشتهروا بالكرم، ولم يخلفهم أحد من عقبهم، مثلالعلماء؛ فالعلم لا يورَّث، وبعضها ما زالت باقية –كما ذكرت آنفًا– وهناك أمر آخر، ذلك أنّ اللهتعالى وسَّع للنّاس في الرِّزق، وكثرة السّيّارات والطّرقات المعبَّدة، وقصر مدّة التنقّل بينالبلدان، فبعضها يستغرق دقائق بعد أن كانت ساعات محفوفة بالمخاطر والمشقّة، وانتشارالمطاعم والتموينات والشّقق في كلّ جهة، فلم تعد الحاجة أبدًا لتلك المضافات“.
*تعسًا للبخلاء*
رحل أولئك القوم الذين أقاموا هاته المضافات، ولكننا اليوم نذكرهم بكل الثناء والدعاء، ومنيقرأ من أبناء وأحفاد هاته العوائل ليفخر بأجداده، ولعلها رسالة لأولئك الممسكين من الذينمَنَّ الله عليهم بالمال والسّعة، ولما يزالون مقترين على أنفسهم وأبنائهم، ممسكين عنمعارفهم وقراباتهم ومن يقصدونه من النّاس، أن يعيدوا حساباتهم، فالتاريخ والمجتمع لايرحمان، وليت البخل يوصم به لوحده، بل تمتد هذه الصفة الشنيعة لتسربل سمعة كلالعائلة ، وبما أسلفت في المقالة الفارطة أن الناس يدعون ويحقرون ويشمئزون من هؤلاءالممسكين البخلاء إن أتت سيرتهم، وقد ذهبوا إلى قبورهم، ولا يُذكَرون إلّا بكلّ سوءوتسفيل، ليبعثر أبناؤه المال الذي أفنى عمره في الحرص عليه، وعدم بذله في المكرُمات.
فعلًا، هناك من جعل الله الفقر في عينيه، ولو ملك كنوز الدّنيا، ما أسوأ البخل! وما أتعسالبخلاء!
تغريدات : عبد العزيز قاسم
إعلامي وكاتب صحافي
مقالتي اليوم تكملة للمقالة الماضية، وهي مقتطفة من كتابي الذي سيطبع قريبا:(سليمان وعبدالعزيز القاسم..قصة كفاح وملحمة إخاء).
ومقالة اليوم تتعرض لبعض بيوتات الضيافة في القصيم قبل سبعين عامًا، وما زال بعضها للآن،وهي بعنوان:المضافات.. عراقة الاسم ورفعة العائلة
بقلم:عبدالعزيز قاسم
— عبدالعزيز قاسم (@azizkasem) March 20, 2022