البر بوالديك بعد وفاتهما

منصة الحدث ـ بقلم الأستاذ ـ / مشاري محمد بن دليلة ـ كاتب في الشؤون الاجتماعية والثقافية
حثت الشريعة الإسلامية على البر بالوالدين والإحسان إليهما والرفق بهما، وبينت أن ذلك من أهم الواجبات، ومن أفضل القربات التي يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل ، وقد بين الله سبحانه حق الوالدين في كتابه العظيم وأمر بالإحسان إليهما ورعايتهما وخفض جانب الذل لهما جزاءً وعرفاناً لما قدموه من معروف له حينما كان صغيراً يقول تعالى ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) ، ويقول سبحانه في سورة لقمان (أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) ، كما أمر ديننا الحنيف بحسن معاملتهما ومصاحبتهما في الدنيا بالمعروف ولو كانا كافرين، وأمر بدعوتهما إلى الهدى والحرص على هدايتهم !! فإذا كان هذا في حق الكافر فكيف بحق المسلمين؟!! يقول الله تعالى ( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا).
ومن البر عند مرض أحدهما معاودته والعناية به والبحث عن الأطباء الأكفاء لمعالجته ـ بقدر المستطاع ـ ولو قدر الله عز وجل ووافته المنية فمن حقه القيام بتجهيز جنازته والإسراع بها إلى المقبرة وتعجيل الصلاة عليها، كما ورد في السنة إذ يقول النبي ﷺ (أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)، ولكن إذا صادف ذلك وقت الساعات الثلاث أجلت الصلاة عليها ودفنها؛ لقول عقبة بن عامر رضي الله عنه: (ثلاث ساعات كان رسول الله ﷺ ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب) أخرجه مسلم ، كما يستحب الصلاة عليه في مساجد يكثر فيها الناس حتى يكونوا شفعاء له يوم القيامة ، وكلما كان العدد أكثر صار أقرب إلى الخير وأكثر للدعاء، فقد جاء في حديث ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله فيه )رواه مسلم، ومن الأحكام المهمة التي قررتها الشريعة الإسلامية ودعت إلى تحريمها النياحة على الميت وهو مايحدث من بعض النساء ولا سيما قبل دفن الميت، من كشف وجهه والبدء في البكاء عليه و الصراخ والعويل والنياحة، وقد يجر هذا الفعل أحيانا إلى الاعتراض على قدر الله عز وجل ، وهذه النياحة وما يلحقها من أفعال مخالفة شرعية وهي من أمور الجاهلية، صاحبها موعود بالعقاب يوم القيامة، وفي الصحيحين وغيرهما، قال أبو مالك الأشعري رضي الله عنه نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم : “أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة”. وفي حديث آخر قال : “النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب” رواه مسلم، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس منا من ضرب الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية” رواه مسلم ،كما كان صلى الله عليه وسلم يبايع النساء وينهاهن عن النياحة، كما في الصحيحين عن أم عطية رضي الله عنها، فالنياحة اعتراض على قضاء الله وقدره، ولهذا حرمها الشرع ،أما بكاء العين وحزن القلب، فليس من النياحة المنهي عنها ، ومن البر بهما بعد موتهما الدعاء لهما والتصدق عنهما ،فقد جاء في الحديث أن النبي صلى عليه وسلم قال (إذا مات الإنسان انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له )أخرجه مسلم، وثبت عنه أيضًا عليه الصلاة والسلام أنه قيل له: يا رسول الله، هل بقي من برِّ أبويَّ شيءٌ أبرّهما به بعد وفاتهما؟ قال ﷺ: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، الصلاة عليهما يعني: الدّعاء لهما، مثل قوله تعالى ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لهم).
ومن بر الوالدين إنفاذ عهدهما من بعدهما يعني: الوصية التي يعهدان بها، وإنفاذ عهدهما من بعدهما يعني: إذا كانت الوصية شرعيةً -ليس لها مانعٌ شرعًا- فإنَّ من برِّهما إنفاذ تلك الوصية، وإكرام صديقهما أصدقاء الوالد والوالدة، وصلة الرحم التي لا تُوصل إلا بهما، كلُّ هذا من برِّهما بعد الوفاة ، والتي يمكن تلخيصها في الآتي :
الأول: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، هذا كله دعاء.
الثاني: إنفاذ عهدهما من بعدهما، الوصية التي لا تُخالف الشرع.
الثالث: إكرام صديقهما.
الرابع: صلة الرحم التي لا تُوصل إلا بهما، مثل: أعمامك، وأخوالك، وعمَّاتك، وخالاتك، كل هؤلاء من أقرباء الوالدين .
وثبت عنه ﷺ أنه قال: إنَّ من أبرِّ البر: صلة الرجل أهل ودِّ أبيه يعني: أحباب أبيه، فهذا من برِّ الوالدين ،ولو كان من الوالدين شيءٌ من التقصير في حقِّ الولد -كإيثار بعضهم على بعضٍ، أو هجرهم له، أو طردهم له، أو غير هذا- فإن هذا لا يمنع من برِّهم والدّعاء لهم، ونحو ذلك ، وورد في الحديث إنَّ اللهَ ليرفعُ الدرجةَ للعبدِ الصالحِ في الجنةِ فيقولُ يا ربِّ من أينَ لي هذا فيقولُ باستغفارِ ولدِكَ لك ،من رحمة الله سبحانه وفضْله أن جعل أسبابًا كثيرةً لرَفْع الدَّرجاتِ وغُفرانِ الذُّنوبِ، ومِن ذلك أنَّه جعَل استِغفارَ الولَدِ لوالِديه سبَبًا لرَفْع درَجتِهما في الجنَّة، كما أخبَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عن ذلك في قولِه: إذا مات الإنسان انقَطَع عمَلُه إلَّا مِن ثلاثٍ، ومِنها: (ولَدٍ صالِحٍ يَدْعو له) فالدعاء مدعاة للمغفرة،ومما ينبغي التنبه له قضاء ماعليهما من ديون في الذمة سواء كانت لله من نذر وحج وغيره أو حقوق للبشر ، ومن البر بهما اجتماع الكلمة بين الإخوة بعد مماتهما وعدم التفرق والتعاطف فيما بينهما والحرص على حضور المناسبات والاجتماعات العائلية وغض الطرف والتغافل عن كل مايحدث من تفرقة شيطانية وغيرها من الأمور التي تؤدي إلى القطيعة وضياع وشائج المحبة بين الاخوان ، نسأل الله أن يرحمنا برحمته وأن يغفر لوالدينا وأن يجمعنا وإياهم في جنات النعيم .