عندما تفارق من تحب
بقلم/ مشاري محمد بن دليلة
كاتب في الشؤون الاجتماعية والثقافية
إن العالم بطبيعته لا يسير على وتيرة واحدة وهذه من سنن الله الكونية، التي قدرها الله على البشرية. فقد كتب الله على الناس في هذه الحياة الدنيا أن يجتمعوا ويتفرقوا كفراق من عاش في منزل واحد أو في الحي أو في العمل إلى مكان آخر، أو أن يرحل من الحياة الدنيا إلى الآخرة، فهذه هي طبيعة الحياة الدنيا: لقاء يتبعه فراق.
ففي وقت مضى فارقنا أبي إلى الدار الآخرة وكان ذلك الموقف شديداً على القلب والعين وما أن استفقنا في وقت قصير حتى ودعنا أخي فكان أشد وطئاً على قلوبنا فقد أحزننا حزناً شديداً ، ولكن عندما نتأمل تلك المواقف فلا بد أن نتغلب عليها ، فهل نحن أعلم أم الله الذي قدر الأقدار وكور الليل على النهار وهو من خلقه ورزقه ثم أخذ أمانته، نحن سنلحق بهم في يوم ما ، نعلم أن الفقد صعب ولكننا مؤمنون بذلك ومسلمون أمرنا لله وبقضاءه وقدره، حقهم علينا الدعاء والصدقة الجارية، لن يمكث أحد في هذه الدنيا مهما طال عمره وحسن عمله فهذه سنة الله في خلقه، هل عندما نفقد حبيباً تنتهي الدنيا ونبدأ بالنياحة على الميت في كل وقت وحين ونعصر قلوبنا على فراقه ونذرف الدموع في كل وقت وكأننا نعترض على القدر الإلاهي ، إن الشيطان يكون له مدخل على تلك القلوب المنكسرة فيبدأ بالتلاعب بها وإحزانها ويجعلها تتذكر تلك المواقف المحزنة حين يوارى جثمان ذلك الحبيب، حتى يتمكن من تلك النفس بإدخالها في نفق الحزن ثم ينقلب على عقبيه ، ذلك الحزن الشديد والاستذكار المتكرر مآلاته وعواقبه وخيمة تضر بالعقل والجسد وتنهش منه ، يجب أن تخرج من تلك الحالة الصعبة وننظر بعين التفاؤل وأنه أقبل على رب رحيم أرحم به منا، ورد في حديث عمر بن الخطاب قال: قُدِم رسول الله ﷺ بسبي، فإذا امرأة من السبي تسعى، إذْ وجدت صبيًّا في السبي أخذته فألزقته ببطنها فأرضعته، فقال رسول الله ﷺ: أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟ ، قلنا: لا والله، فقال: الله أرحم بعباده من هذه بولدها، متفق عليه ، يجب أن تتأصل تلك العقيدة في قلوبنا وسلوكنا ونعلم أن من فارقناه قد قدم على من هو أرحم منا وأحن عليه، يامن فقدت حبيباً من أب أو أم أخ أو أخت أو ولد لا تحزن إن الله معهم ، نعم نحزن على فراقهم في حينه فنحن بشر والنبي صلى الله عليه وسلم حزن على فراق ابنه إبراهيم وأحبابه من الصحابة وأبنائه عندما فارقهم ولكنه لم يركن لذلك الحزن بل جعل من ذلك الحزن طريقاً للهدى والدعوة إلى الله فهو يعلم أنه لن يبقى أحد على هذا الكوكب ، وأي مصيبة أعظم من فقده صلى الله عليه وسلم عندما فقده الصحابة ومن شدة هول الموقف لم تصدقه عقولهم ، عن عائشة ـ رضي الله عنها قالت أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مات وأبو بكر بالسنح، فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قالت: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقبله، قال: بأبي أنت وأمي طبت حيّا وميتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدًا، ثم خرج فقال: أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ” ألا من كان يعبد محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”، وقال: { إنك ميت وإنهم ميتون }، وقال: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين }، فنشج الناس يبكون ) رواه البخاري ،قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ” والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزلها حتى تلاها أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ، فتلقاها منه الناس، فما يسمع بشر إلا يتلوها “،وقال عمر: ” فوالله لكأني لم أتل هذه الآية قط ” ،قال ابن رجب: ” ولما توفي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية ” ، لايوجد أحد يحب الموت فالإنسان بطبعه يحب الحياة ولكن يجب أن ننظر إلى الحياة الدنيا بحجمها الذي خلقها الله في قوله سبحانه (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) وقال الله تعالى (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح) . فالحياة في حقيقتها -بحسب المثل القرآني- أشبه بالدورة الزراعية، تبدأ بقطرات من الماء، ثم تنتهي بالهشيم من الزرع، الذي تطير به الرياح، فتذروه هنا وهناك، كأن لم يكن شيئاً مذكوراً، أيها القارئ احذر من التسخط وأمور الجاهلية يقول النبي ﷺ: (أربعة في أمتي من أمور الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، يعني على الميت) تذكر أجدادك وعشيرتك الأولين أين هم فهذه حال الدنيا ، كن قوياً بالله وثق به وسوف يعطي ميتك حتى يرضى بإذنه، لا تدخل في بؤس وحزن لن ينفع ذلك ميتك، فبعض الناس يضع صورة فقيده أمام عينيه أو صورة قبره ويبكي كلما رآه حتى تبيض عيناه من الحزن ، نسأل الله أن يغفر لموتانا وأن يرحمهم برحمته وأن يسكنهم منازل الأنبياء والشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقاً.