المقالات

بين الحداثة والنقد

 

من المؤكد أن النقد كفن أدبي يسير باتجاه مواز ٍ للشعر لا يزال بعيدا عن اهتمام الشعراء، والسبب أن النقد ليس علما له قواعده الثابتة التي يستطيع الناقد من خلالها أن يضع رؤية نقدية لأي نص شعري هي بالتالي نفس الرؤية التي سيضعها أي ناقد آخر لنفس النص، فلكل ناقد رؤيته الخاصة ومن زوايته الخاصة، لكن قد يحمد للنقد أن أغلب اتجاهاته تسلط الضوء على الجوانب الجمالية والإبداعية في النصوص أكثر من أن تركز على الزلات والهفوات فيها أو تعمد إلى انتقاص قيمتها الإبداعية، فالنقد الحديث ربما يحدث نوعا من الموازنة والمفاضلة بين النصوص الشعرية ليضعها في درجات إبداعية متفاوتة يعللها تعليلا نقديا وإن كان مختلفا في معايير التقييم لكنه يتفق نوعا ما في تمييز النصوص ودرجتها الإبداعية

من المرجح أن اختلاف الرؤى النقدية يرجع بالأساس إلى تعدد النظريات النقدية وعدم وجود نظرية نقدية ثابتة وموحدة، فأغلب هذه النظريات جاءت استجابة لتغير البنية النمطية للشعر ليس من حيث البناء العروضي ولكن من حيث البناء اللغوي والذي طرأت عليه مفاهيم متعددة ومتغيرة ابتداء من الرمزية ووصولا إلى محاولات التحرر من مدلولات الألفاظ بحيث تركب تركيبا لا منطقيا ولا دلاليا الأمر الذي أفضى إلى درجة عالية من الغموض والتشتت اللغوي الذي حجب عن المتلقي ما يريد الشاعر قوله، فيأتي النقد محاولا وضع تفسيرات وتعليلات لهذه الحالة مبررا إياها بالتطور والتحديث اللغوي الإبداعي، رغم أن بعض هذا التطور يعد نشازا فنيا وجنونا لغويا بدليل عدم رواجه وعدم قبوله في الذائقة العامة، فالإبداع المنفصم عن مجتمعه وبيئته لا يعد إبداعا مهما حاول النقد تبريره، كما أن هذا التطور في بنية اللغة لم يسر في مسار خطي نستطيع تتبعه من خلاله والحكم عليه إن كان نتاجا طبيعا لما قبله أم لا.

إن بعض المفاهيم الحداثية تحاول أن تجعل الشعر فنا غامضا كونه ناتج عن نشاط وجداني إنساني مرتبط بالجو النفسي للشاعر ومعبر عنه وتبرر أي تشويش أو غموض فيه بكون الشاعر عند كتابة النص واقع تحت تدفق شعوري يرغمه على كتابة ما يتداعى إليه من تراكيب لغوية.. فأي جنون هذا الذي يصور لنا الحالة الشعرية وكأنها جلسة لتحضير الأرواح وتجعل الشاعر عبارة عن متلقي للوحي الشعري من أي تدفق وجداني وبالتالي فهو يسطره كما هو وكأنه عبارة عن ناقل أو وسيط وبالتالي تلغي الدور الأساسي للشاعر في إعمال أدواته اللغوية ومهاراته الإبداعية في صناعة النص الشعري، فالناتج عن هذه الرؤية النقدية الحداثية نصوص في غاية التعقيد والتشويش وكأن الشاعر فيها يكتب لنفسه فقط أو أنه يقوم بعملية تفريغ نفسي على هيئة تراكيب لغوية مبهمة دون الاهتمام بالجانب الإبداعي والارتباط بالبيئة الاجتماعية والذائقة العامة، فالشاعر في هذه الحالة عبارة عن كائن متقوقع ومنعزل يسطر حالته النفسية بنوع من الهذيان الذي يعتبره حالة إبداعية تسانده في ذلك بعض المفاهيم الحداثية التي تحاول وضع قوالب نقدية لاحتواء هذا الجنون، وهو الأمر الذي جعل بعض جوانب الحداثة في عزلة شبه تامة عن ذائقة العامة من الناس وفهمهم.

كان الشعر ومازال ديوان العرب لذلك نجد في الذاكرة الجمعية لنا كعرب شعراء تألقوا وما زالوا ولا يختلف اثنان حول شاعريتهم، كما أن للشعر حضوره الذي لا ينكره أحد في الذائقة العامة، ولأني لست ناقدة سأضع أمامكم أنموذجا بسيطا للحداثة الشعرية التي تحدثت عنها، فمن رأى غير ما رأيت من التشويش والتعقيد فليتكرم بالبيان والتوضيح لتزول منا هذه الرؤية الضبابية تجاه بعض اتجاهات الحداثة الشعرية وبالتالي نستفيد جميعا..

مقطع من نص للشاعر اللبناني الكبير ” شوقي أبو شقرا” أضعه لتقييمكم:

فرس اللامبالاة يعكر المدينة
أوراقي تلبط الريشة
الشيخوخة ذبح الحمام
السطوح ساكنة التين
الريح طويلة القامة
الزاوية القصاص قرنفلة الوحدة
الضباب ضعيف النظر
القطار الفقير الحافي
إلى الشغل، إلى الشغل”

سأنتظر تقييمكم وردودكم.

دلال راضي

مبادروة ملتزمون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى