المقالات

عن الأدب والآباء المؤسسين.. طه حسين ونيقولاي غوغول نموذجًا

الحدث – حمدي محمود 

 

في كلّ بلد تبدأ مرحلة الأدب بدايتها الحقيقية المستمرة المتمثلة في أدباء غزيري الإنتاج القصصي النثري بصعوبة كالنقش على الحجر؛ تجد حامل الراية الأولى قابضًا على قلمه لينقش في الحجر كلماته التي يحاول جاهدًا حدّ الإعياء إيصال فكرته للجمهور، فتجده يقصّ عليك حكاويه كما فعلها الأجداد الأوّلون.. حينها لم يكن السرد وحده يصلح لمسار الحكاوي، ولكن وجب عليهم الشّرح في كثير من الأحيان؛ كأن يقولوا: “كان هنالك رجل في قديم الزمان طويل القامة ذو لحية بيضاء ورأسه ضخمة، يجول البلدة قبل طلوع الشمس لتنظيف الطرقات. (ثمّ يتوقف الراوي ويخبرك بأنه) يجب عليّ تذكيرك عزيزي القارئ أنه كان يفعل هذا لأنه رجل يحب خدمة مجتمعه بعد أن توفت زوجته وأصبح وحيدًا.” ثم يعودون مرة أخرى ليخبروك بأن الرجل داوم على هذا الفعل حتى قام بتكوين جمعية لتنظيف الطرقات. ويتركون السرد مرة أخرى ليخبروك بأنّ الجمعية كبرت وشملت الحي الذي سكن فيه وثم جميع الأماكن المجاورة.. ويعودون للسرد مرة أخرى.

طيب.. هل يفعل الراوي هذا لأنه لا يستطيع مواصلة السرد ولا يمتلك الموهبة الكاملة لفعل هذا؟ أو أنه يرى قارئه آبلهًا لا يستطيع الإلمام بالأفكار دون تنبيه وشرح؟!

أنا أميل للخيار الثاني، لأنّ نوع هذا الأدب (القصص) في بدايته كان غريبًا على الجمهور، فكان في البدء على هيئة “حكاوي” من الأجداد وفي التجمعات الليلية حول نيران لم تخمد حتى عصرنا هذا؛ ثم ظهرت الحكاوي الشعبية متمثلةً في مجلداتٍ عبر القرون المختلفة، منها بالكتابة الشعرية والنثرية: مثل الأوديسة والإلياذة لهوميروس، وذلك في القرن الثامن قبل الميلاد في الإغريق؛ وألف ليلة وليلة التي لم نتأكد بعد من العصر الذي ظهرت فيه أو مَن مؤلفها (ولكن يميل جزء كبير إلى أنها عربية وظهرت في العصر العباسي الأول في القرن الثامن الميلادي)، وملحمة جلجامش في بلاد سومر، والكوميديا الإلهية لدانتي في إيطاليا، وكتاب التحولات لأوفيد في روما، وقصص الديكاميرون لجيوفاني بوكاتشيو في إيطاليا، وكتاب دون كيخوتي لـميغيل دي ثيربانتس في إسبانيا، وغيرها الكثير من الأمثلة.

ثم حدثت طفرة في وقتٍ ما في هذا البلد  -أيًا كان البلد الذي نشأ فيه الأدب أول منشأه الحديث المتعارف عليه الآن- فكانت الجرائد وما فيها من مقالات تمجّد صاحب المعالي والسلطة ومن ثمّ مقالات في الأحداث اليومية للسلطة ومن ثم مع بعض التطور لمقالات تتحدث عن المجتمع وما يحدث فيه من طرائف ونوادر ثم بعض الأخبار من هنا وهناك، ثم وبعد مدة ظهر الأدب بشكل أوسع على شاكلة الرواية والقصة فكان المؤسسون الأوائل لهذا الضرب من الأدب يحاولون بشتى الطرق إيصال فكرتهم للجمهور بالسرد والشرح بجانبه، ثم تطوّر الأمر على يد الجيل الجديد  -أي جيل جاء بعد الأباء المؤسسين- فأخذوا بالسرد دون الشرح لأن الجمهور أصبح يعي ما هو أمامه من هذا النوع من الأدب.

يكفي أن أخبرك أنه في مصر مع بداية وجود أدب وآباء مؤسسين له لم يكن من هم يعملون في مهنة الصحافة يعترفون بأنّ هنالك نوع من الأدب يُسمّى القصة القصيرة، وكانوا يعترفون بالرواية فقط كشكل أدبي وبالمقال، حتى جاء “محمود تيمور” فكتب القصة القصيرة وأظهرها في أفضل صورة لها، وكان من بعده كثير.. لكن بما يخص موضوع السرد والشرح فكان هذا يوضع على عاتق عميد الأدب العربي “طه حسين” لذلك يراه الكثير اليوم بأنه يبالغ في سرده وشرحه وأنه يخرجنا من القصة بطريقته تلك، ومِثلُه كان “نيقولاي غوغول” في روسيا، فكان هذا هو النهج الذي اتّبعاه لإيصال حكاويهما للجمهور. أما قبلهما، فكان يوجد الشعراء العظام مثل أحمد شوقي في مصر وبوشكين في روسيا وكلاهما ملقّب بأمير شعراء بلاده وكلاهما كان غزير الإنتاج الشعري وقليل الإنتاج النثري.

لذا يجب علينا عدم التقليل من شأنهم وشأن غيرهم من الآباء المؤسسين، لأنه لولا وجودهم لما وجد الأدب بعظمته وأدباء الجيل الذي تلاهم بهذه السهولة والكمال كنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ودوستويفسكي وتشخيوف.

وقبل الحكم المتسرع من القراء الذين لم يكن لهم عهد بهؤلاء الآباء إلا في كتبهم المدرسية أن يطّلعوا ولو على سبيل التجربة على بعض الكتب، ومنها:

_ لطه حسين ( المعذبون في الأرض، جنة الحيوان، الأيام)

_ لنيقولاي غوغول ( مذكرات مجنون، المعطف، الأنفس الميتة)

ولِنَرَ رأي نجيب محفوظ في طه حسين:

جمع طه حسين بين العلم والفن. لقد ارتبط طه حسين في أذهاننا بالحرية والبحث العقلي الموضوعي، ويعتبر طه حسين أحد الرواد مع العقاد والمازني وحسين هيكل وسلامة موسى الذين قامت عليهم حياتنا الأدبية في مطلع القرن العشرين. أما طه حسين العميد فقد راح يربّينا تربية جامعية عظيمة؛ فكان لا يسمح بكتابة المحاضرات بعد، ولكن يقول “اكتبوا مما استوعبته عقولكم ولديكم المراجع في مكتبة الجامعة، لذلك كان خروجه من الجامعة كارثة”.

ورأي دوستويفسكي ‏في نيقولاي غوغول:

“جميعنا خرجنا من معطف غوغول” إشارة إلى قصته العظمية المعطف، وأضاف في مقال له أن غوغول أضحكنا من أنفسنا ثم أبكانا عليها في كتاباته.

مبادروة ملتزمون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى