المقالات

الكلمة الطيبة والأدب

للكلمة الطيبة آثار عجيبة في النفس، تفتح مغاليقها، وتغير قناعاتها، وتبدل مساراتها، خاصة عندما تصدر من وجدان صادق ولسان بليغ، وأهداف نبيلة. ولا أجد وصفاً أعظم لها مما وصفها به الله سبحانه وتعالى، إذ شبهها بشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. فثمار الكلمة الطيبة نتاج الشجرة الطيبة، لا بد أن تكون يانعة شهية تحس لذتها كل ذائقة سوية.

ولئن كان الأدب أحد ميادين الكلمة الطيبة التي تخصب فيه شجرتها وتتزاحم الثمار، فإن أدب الموعظة بالذات هو أخصب ميادينها، خاصة عندما يُرزق هذا الأدب عبقرياً مبدعاً، خبيراً بالنفس البشرية، بارعاً في معرفة أمراضها وأدواء تلك الأمراض، يحسن صناعة الموقف الذي يستلفت القلوب والعقول، ويحسن سبك عباراته البليغة، وصياغة صوره المؤثرة، وقبل ذلك كله صادقٌ مع الله سبحانه وتعالى، ثم مع نفسه، فيما يصدر عنها، يحس به هو ويعيشه قبل أن يحسِّسَ به الآخرين، ويتمثله في سلوكه الذي يراه الآخرون قبل أن يطلب من الآخرين أن يتمثلوه وأن يطبقوه.

 فهذا الذي يوفقه الله إلى أن تكون مواعظه أدباً رفيعاً يستقر في أعماق النفس، ويؤثر فيها أيما تأثير. وهذا الشرط فيصلٌ في قبول مواعظه وتأثيرها فيمن يتلقاها، والعكس بالعكس، عندما يشتم المتلقي رائحة رياء أو نفاق أو مخالفة الكلام لمقتضى الحال، فلن تتجاوز الموعظة الآذان، إن صبرت الآذان على تلقيها.

 ونجد مصداق ذلك في الواعظين الصادقين فعلاً وقولاً، الذين كان الخلفاء والأمراء والوزراء والوجهاء وخاصة الناس وعامتهم يسألونهم الموعظة، وعندما يسمعونها تنهمر دموعهم الغزيرة، وتنقاد نفوسهم؛ لما جاء فيها من نصح وإرشاد، فيستغفر من يستغفر، ويتوب من يتوب، ويعزمون على أن يأتوا ما وجهتهم إليه الموعظة.

وفي تراثنا الأدبي الإسلامي نماذج كثيرة لهذا الأدب، فرسانه رجال جمعوا بين صدق العمل، وصدق القول، وبلاغة العبارة، وحسن الموعظة.

ومن هؤلاء عبدالرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي المشهور بابن الجوزي، من أبناء القرن السادس الهجري، علامة عصره في التاريخ والحديث والأدب وخاصة أدب الموعظة، وأحد أعلام المصنفين المكثرين، له نحو ثلاثمئة مصنف في ميادين إبداعه.

كان ابن الجوزي يجتمع في مجلس وعظه أعداد غفيرة، تضيق بها المساجد والمجالس، وكانت مؤلفاته تنتقل بين الخاصة والمثقفين والعامة، وكان بعضهم يحفظ مواعظه ويستشهد بها، وربما خطب بها الخطباء، وتحدث بها المدرسون ومحدثو المجالس.

ومن مواعظه التي تضمنها كتابه بحر الدموع. وعنوان الكتاب في حد ذاته لافت للنظر بدلالته الصورية البليغة، من مواعظه في هذا الكتاب موعظة يقول فيها معاتباً المذنب برقة وشفافية:

“ياأخي: لا تغسل أدناس الذنوب إلا بماء المدامع، فلا ينجو من قتار المعصية إلا من يسارع، أحضر قلبك ساعة عساه بنائحة المواعظ يراجع. اطلب رفاق التائبين، وجدد رسائلك للحبيب وطالع، مصباح التقوى يدل على الجادة، وكم في ظلمة الغفلة من قاطع. إذا لم يعظك الدهر والشيب والضعف فما أنت صانع؟ فبالله يا إخواني بادروا بالمتاب، وراجعوا أنفسكم قبل يوم الحساب”.

 ويمزج ابن الجوزي موعظته النثرية بشيء من الشعر، ويستخدم الأسلوب الذي يسمى في البلاغة بالالتفات، حيث ينقل حديثه من خطاب المتلقين إلى مخاطبة نفسه، ويضعها موضع أحد المتلقين المذنبين. وهذا أوقع في النفوس فيقطع السرد، ويغير صيغة الخطاب؛ ليشد إليه المتلقين ويزيد انتباههم وتأثرهم فينشد:

ما اعتذاري وأمر ربي عصيتُ              

حين تبدي صحائفي ما أتيت

ما اعتذاري إذا وقفت ذليلاً                  

قد نهاني ما أراني انتهيت

ياغنياً عن العباد جميعاً                     

وعليماً بكل ما قد سعيت

ليس لي حجة ولا لي عذر                 

فاعف عن زلتي وما قد جنيت

ثم يواصل ابن الجوزي موعظته في بوح نثري، يخاطب فيه نفسه، ومن ورائها المتلقين، ينبههم جميعاً إلى خطورة تأخير التوبة، يقول:

“سلبك المشيب من الشباب، فأين البكاء, وأين الحزن، إذا كان القلب خراباً من التقوى: فما ينفع البكاء في الدّمن، ياقتيل الهجران هذا أوان الصلح فبادر؛ عسى أن تزول الأدران”.

 ويشتد ابن الجوزي في مخاطبة المسوفين، وينتقل من العنية إلى العتاب الذي لا يخلو من تقريعٍ؛ ليكون تأثيره أبعد وأقوى، يقول:

“يا من سوّف بالمتاب حتى شاب، يا من ضيّع في الغفلة أيام الشباب غافلاً، وفي المشيب مسوّفاً، فمتى تقف بالباب!؟. كم عوملت على الوفاء! ما هكذا فعل الأحباب. الظاهر منك عامر، والباطن ويحك خراب، كم عصيانٍ، كم مخالفةٍ، كم رياءٍ، ولّى طيبُ العمر في الخطايا، أفلا تعود إلى الصواب!؟.. كيف يجمل بالشيخ التصابي إذا أنذرك المشيب بالرحلة ولم تعدّ الزاد!؟ فكيف يكون الجواب؟”.

مبادروة ملتزمون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى