المقالاتشريط الاخبار

مشاهد من رحلتي للبقاع المقدسة

الحدث/ بقلم الدكتور أحمد عبد المقصود

في مطار الأمير محمد بن عبد العزيز بالمدينة المنورة – على صاحبها الصلاة والسلام – ارتفع صوت المذيع الداخلي؛ يعلن عن وصول ومغادرة الرحلات، لكن صوتا آخر كان يرتفع عنه بقليل: ماما    يا ماماااااا     يا مااامااااا

كانت عقارب الساعة تشير للواحدة بعد منتصف الليل، يخيم هدوء جميل على أغلب المسافرين والوافدين توقيرا لهذه المدينة الشريفة، غير أن صوت هذه الفتاة سرعان ما أعادني إلى مصر بشوارعها وحواريها، وبطريقة النداء التي يستخدمها القاهريون … كانت فتاة في الثلاثين من عمرها بينما الأم في نهاية الخمسينيات، وهي لا تعاني ضعفا في السمع أو ما شابه، لكن يبدو أن الفتاة أرادت أن تظهر اهتماما زائدا بأمها في الغربة، فكان أن حجزت لها مقعدا قرب السير الذي ننتظر عليه وصول الحقائب، وظلت تصرخ عليها حتى جاءت لتجلس وتفرغت الفتاة فيما بعد للعثور على حقابئهن … هنا ينتهي هذا المشهد، لكنه لم ينته في رأسي، فبعد بعض التدقيق وجدت هذا النموذج يتكرر في الفوج الذي نتبعه وفي أفواج معتمرين آخرين، فتاة وأمها، تصب الفتاة من الاهتمام والحب على أمها صبا، سرعان ما تذكرت تلك الكلمات التي تخدعني بها زوجتي وشقيقاتي والمحيطين بي من أن ” البنت بنت أبوها ”  إذا ماذا يفعل هؤلاء لأمهاتهن ؟؟!!

أرقتني الفكرة كثيرا، أنا بالطبع لا أعارض أن يحب بناتي أمهم على نفس قدر حبهم لأبيهم، لكن دون يقنعوني بالعكس طوال هذا الوقت، وكأن غمامة انزاحت عن عيني فأخذت أتذكر الأمثال الشعبية التي قابلتني أو قرأتها في هذا الحال

“أقلب القدرة على فمها، تطلع البنت لأمها” مثل مصري وعربي

“البنت بغیر أمّ، زي القميص بغیر کُمّ” مثل عربي

“الإبن یحمل خنجر أبیه‌، والبنت تحمل مغزل أمها” مثل كردي

” اختر الفاكهة من الأرض الطيبة، وأخطب البنت من الأم الطیبة” مثل صيني

” إذا أردت البنت فاقنع أمها” مثل دانماركي

وغير ذلك من النماذج التي تعكس هذه الحميمية بين البنت وأمها فتجعلها تميل إليها وتكون أكثر التصاقا بها، ليس فقط لوحدة الجنس والخصوصية الأنثوية وإنما أيضا لتشابه التفكير والميول والطباع والاهتمامات. هنيئا لكل أم بحب فلذات أكبادها

الحاجة مريم

رافقتنا في هذه الرحلة الحاجة “مريم” وهي أرملة تجاوزت السبعين من عمرها، نحيلة الجسد وقصيرة القامة لديها حدبة في ظهرها، عندما تراها للوهلة الأولى تعتقد أنها تتحرك بصعوبة، غير أننا حين وصلنا مكة المكرمة وبدأنا في العمرة تجمعت حولي مجموعة من الرجال والنساء ضمن الفوج وطلبوا أن أطوف بهم الكعبة الشريفة لأنهم لا يعرفون كثيرا عن العمرة، كانت من بينهم الحاجة ” مريم ” كانت تسير إلى جواري بسرعة ” الرهوان ” وفي يدها عكاز من الخشب تستند إليه، ووسط كل هذه الجموع الغفيرة حول الكعبة كان يصلني صوت عكازها وهو يطرق بقوة على رخام المطاف، ومع كل طرقة يأتي في ذهني قول النبي عليه الصلاة والسلام لبلال بن رباح رضي الله عنه ” إني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة “، يا الله هل يكون لنا نصيبا في الجنة؟! لا أبالغ إذا قلت أنني في كل مرة كنت أسمع عكاز المرأة العجوز يضرب في الأرض يقفز هذا الحديث إلى ذهني حتى بعد أن انتقلنا إلى السعي بين الصفا والمروة، وطوال الرحلة كانت الحاجة “مريم” صاحبة همة لا تضاهى .. كنت أظنها وحيدة ومسكينة لكن اليوم التالي لوصولنا مكة اختفت تقريبا وفي اليوم الثالث جائتني ومعها تفاح وموز هدية، قالت إن ابنها جاء من الدمام – حيث يعمل هناك – وقضى معها اليوم بأكمله، وأكملت رفيقاتها في الغرفة القصة أنه أطعمها كل ما لذ وطاب وجعلها ترى مكة كلها واشترى لها كل ما يلزمها ثم عاد إلى المدينة التي يعمل بها. بعد وصلنا للقاهرة شاهدت عميدا في الجيش يقف على باب الطائرة، وشاهدته مرة أخرى حين نادتني الحاجة مريم وأنا خارج من المطار لأسلم عليه قائلة “عبد الله ابني “.

“ويرزقكم من حيث لا تعلمون”

في الباص الذي نستقله من الفندق إلى المسجد الحرام حكت هذه السيدة قصة رحلتها إلى العمرة … تقول: هجرنا زوجي وبناتي الثلاث صغار، ولم نعلم عنه شيئا حتى توفاه الله، ربيت بناتي وعلمتهن وزوجتهن، وطالما تمنيت أن يرزقني الله الحج أو العمرة … في هذا اليوم قلت لابنتي كيف يتحقق مرادي ولا نملك مالا للعمرة، فأجابتها الفتاة واظبي على الدعاء وسيدبر الله الأمر … تقول السيدة ظللت أدعو الله ما بين صلاتي المغرب والعشاء وقبل أن أنام رن الهاتف وإذا بجارة كريمة تعرفني يعمل ابنها في شركة سياحة تقول لي إن شيخا سعوديا تكفل بمصاريف العمرة لعشرة أشخاص هذا الموسم وقد وضعنا اسمك ضمنهم فتجهزي”

تقول السيدة لم يكن لدي مال لأستخرج جوا سفر حتى ، لكن الله كبير فوجئت بأزواج بناتي الثلاثة يأتونني بالمال الكافي لكل الرحلة بل وأعطاني أحدهم تليفونا محمولا بشاشة لمس قائلا: ” هذا لتتصوري به عند الكعبة وترسلين لنا الصور” .

كم أنت كريم يا الله   

مبادروة ملتزمون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى