الإعلامي عبدالعزيز قاسمشريط الاخبار

خوارزم.. أساطير ألف ليلة وليلة

بقلم :عبدالعزيز قاسم

‏مقالتي اليوم تتحدث عن زيارتي لمدينة خوارزم في أوزبكستان.. وتدعي اليوم ب”خيوه”…وسقت ما قاله ابن بطوطة وياقوت الحموي عنها، وكيف تمتاز بالشمام الذي لا يضاهى بكل العالم

وجدتني أهتف في “السناب شات” قبل أيام، وأنا أجوب الأزقة القديمة في خوارزم، مأخوذاً بدهشة المكان وسحر الأجواء وتأريخية المباني: “يا أحبة.. أقسم لكم، لكأنني في عالم ألف ليلة وليلة، وها أنا أتلفت يمنة ويسرة؛ علّي أطالع ذلك الجني الذي يخرج من القمقم، أو بساط الريح الذي يطير لوحده!!”

لست لوحدي الذي عصفت به تلك المشاعر، وعاش مناخات تلكم العصور الوسطى، بل ثمة صحافية غربية مثلي، اسمها “جالينا بولونسكايا”، زارت المدينة القديمة في خوارزم، وكتبت: “حسب الأسطورة فإن ابن النبي نوح كان مسافراً عبر هذه الصحراء، ورأى القلعة في منامه، وعند استيقاظه وجد نبعاً عذباً، لذا قرّر أن يبني هذه القلعة. إنها مدينة قصص ألف ليلة وليلة، تستيقظ على ألحان الماضي، وتداعب التاريخ العريق من خلال صناعة التحف الخشبية”.

زرتُ قبلاً مدن أوزبكستان التاريخية، بخارى، سمرقند، ترمذ، خوارزم، فرغانة وغيرها من المدن التي تحمل تأريخا مجيداً، وأراها في كل مرة تتجدّد، والعادة أن السائح، المثقف بالخصوص، يمتلئ من مرة واحدة أو مرتين بالأكثر، وينصرف لمدائن أخرى يكتشفها، تستوفز حواسه وفكره واهتمامه، بيد أن هاته المدن في أوزبكستان، لا تفكّ سحرها أبداً، إذ تكتشف عوالم جديدة، وأسراراً لم تطلع عليها قبلاً، تكتمها عنك كي تأتيها لمرات.

دليلنا -الفارع الطول- في المدينة القديمة، يهمس لي بكل تباهٍ وفخر، وهو يصلح “الجوغرما” على رأسي، وهي قبعة أهل خوارزم الشهيرة، ويقول لي: “خوارزم ليس فيها ذهب ولا فضة ولا أحجار كريمة؛ بها العلم والموهبة في الحِرف”. وصدق الرجل، فعلى مدى التأريخ؛ اشتهرت خوارزم بفن النحت، وأنها موطن العلماء.

يمضي بنا دليلنا مرادوف، والدهشة والتاريخ والأساطير تتلبسني، فلم أكن أتوقع أبداً أنني أعيش أجواء عشرة قرون مضت، فمن قرأ منكم كتاب “ألف ليلة وليلة” سيميّزها هنا، بل أزعم أنه سيعيشها بكل تفاصيلها، وبكل تلك الأساطير الرائعة التي جاءت في حكايات شهرزاد الشهيرة، لشهريار ذلك الحاكم القاتل، الأمر الذي جعل سيّاحاً من الغرب لا ينفكون عن زيارة هذه المدينة التي لا يعرفها كثير من العرب، بينما روح أجدادهم لا تزال تطوف بأجواء المكان أنّى اتجهت في دروبها وأزقتها الصغيرة.

أتذكر أنني وقفت في زيارتي الأولى أمام نصب كبير في وسط المدينة القديمة، لعالم الرياضيات ذائع الصيت أبي عبدالله محمد بن موسى الخوارزمي، وبين يديه كتابه الأشهر “الكتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة”. وجثمتْ عليّ –حينها- مشاعر متباينة من الفخر والحزن والفرح والرهبة والحنين، سرعان ما زايلتني، وليشرئب عنقي أطالع هذا الطود للعالم المسلم الكبير، وأستحضر أن جهاز المحمول بيدي، والذي أتواصل عبره مع العالم، إنما كان بفضل الله ثم نظرياته التي سمّاها الغرب بالخوارزمية، وكانت أساساً لكل حواسيب العالم اليوم والأجهزة الرقمية.

ثمة متحف هناك دخلته، وإذا بي أمام علماء خلدهم التأريخ، عاشوا في هذه المدينة، فتطالع أبو الريحان البيروني العالم الموسوعي والذي تفوق في الفيزياء والفلك والرياضيات، وهناك أبو نصر الفارابي الذي سُمّي بالمعلم الثاني، حيث أرسطو المعلم الأول، ووجدت أبا علي الحسين بن سينا الذي سمّاه الغربيون بأمير الأطباء وأبو الطب الحديث في العصور الوسطى، فضلا عن أبو القاسم محمود الزمخشري صاحب كتاب “الكشاف”، وجملة من علماء الرياضيات والفلك والطبيعة، أسهموا –باقتدار- في الحضارة الانسانية وصعودها، واعترف الغرب بفضل مساهماتهم العلمية المذهلة، وتعجب أن الغرب يعرفهم أكثر منا، فثمة أسماء أسمع بها لأول مرة في حياتي، وكتب الغربيون عنهم واسهاماتهم.

ما أدهشني في المدينة القديمة تلك العمارة الإسلامية الشامخة، والمآذن الكبيرة التي تحيط بذلك السور، ويفخر أهل خوارزم بأن مدينتهم تحوي أعلى مئذنة تاريخية في كل آسيا الوسطى، وهي مئذنة “كونلج تيمور”، وتمثل أقدم الآثار التي تعود إلى أيام المغول.

والحقيقة لا تملك إلا أن تذرف دمعات رغماً عنك، تأثراً منك وأنت ترى تلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأبيات الشعر الخالدة تزيّن جدران دور العلم المنتشرة هناك، وهي مكتوبة بأحرف عربية صميمة، تفنّن خطاطوها في نقشها بتلك الفسيفساء الرائعة. بل كل زاوية في تلك الجُدر لها نقشٌ مختلف، يحكي فكرة معينة حاول نقشها ذلك النحّات، ولو جلست الساعات الطوال لما انتهيت من استطعام الفن الذي تحويه تلكم اللوحات الفنية الرائعة على الجدران، وتجعل من يطالعها من بعيد، كأنه إزاء جدار مغطى بتلك الفيسفساء فقط، وليقع كما وقعت أنا في ذلك الوهم، بينما الحقيقة أنها لوحة فنية متكاملة، لا يعرفها ويميّزها إلا الفنانون المتخصصون.

الأمر لا يقتصر فقط على الجدران، بل حتى الأبواب هناك، ترى النقوش الفنية البديعة عليها، وأعجب من الوقت الذي يمضيه أولئك النجارون في ذلك النحت المتعب، ولكنها في النهاية إعلان لمدى رقي أولئك القوم، ومدى الحضارة التي كانوا عليها. النقوش والنحت في الأسقف وفي الجداران وفي الأبواب وفي الأكواب الصغيرة والسجاجيد والفخارات والأواني، الحقيقة أنهم بلغوا شأوا بعيدا في ذلك النحت الذي كل قطعة فيه له فكرة وحكاية .

ياقوت الحموي زار إقليم خوارزم، وكان اسمها في ذلك الوقت “الجرجانية” في 616 هـ/ 1219م، أو “أوركاكانج” على ما سماها به قبيل الغزو المغولي للمدينة، وقال عنها: “وما ظننت أن في الدنيا بقعة سعتها سعة خوارزم وأكثر من أهلها، مع أنهم قد مرنوا على ضيق العيش والقناعة بالشيء اليسير، وأكثر ضياع خوارزم مدن ذات أسواق وخيرات ودكاكين، وفي النادر أن يكون قرية لا سوق فيها مع أمن شامل وطمأنينة تامة.. ولا أعلم أني رأيت أعظم منها مدينة ولا أكثر أموالاً، وأحسن أحوالاً، ثم دمرها المغول سنة 617هـ/1220م، وطمسوا معالمها، وقتلوا الكثير من أهلها”.

ابن بطوطة قال عنها بعد زيارته لها: “هي من أكبر مدن الأتراك وأعظمها وأجملها وأضخمها، لها أسواق مليحة، وشوارع فسيحة، والعمارة الكثيرة، والمحاسن الأثيرة، وهي ترتج بسكانها لكثرتهم وتموج بهم موج البحر.. ولم أر في بلاد الدنيا أحسن أخلاقاً من أهل خوارزم، ولا أكرم نفوساً، ولا أحب في الغرباء، ينتشر في أنحائها الزوايا والمساجد والمدارس والمدرسون الذين يعملون فيها، وكذلك المؤذنون والوعاظ والمذكرون، وكذلك الفقهاء والقضاة الذين يحكمون في القضايا الشرعية، وما كان من سواها حكم فيها الأمراء، وأحكامهم مضبوطة عادلة؛ لأنهم لا يتهمون بميل، ولا يقبلون رشوة”.
وقال عنها عبدالعزيز قاسم: “لا ألذ من شمّام خوارزم، ولا يضاهيهم أحد في فن النقش، وهم أجمل وجوه أهل تلك الديار، لأنهم خليط بين العرب والفرس والترك”. وفعلاً، أوصي كل من يأتي تلك الديار أن يبحث عن فاكهة الشمّام الخوارزمي، فلم أذق في حياتي أطيب منه، ولا أسكر، ولكأن ماءه عسلاً صافياً يلذع لسانك من حلاوته، والشمّام هناك على 25 نوعاً، ألذّها على الاطلاق شمّام خوارزم.

الطباخة الماهرة السيدة “ميسر خون”، أكرمتني بطهو أكلتين لا تأكلهما إلا في مدينة خوارزم، التي تدعى اليوم بمدينة “خيوه”، والأكلتان هما: “تخوم برك” وهو عجين مطهو على الماء وبداخله بيض مخلوط ببعض البهار، يذوب في فمك من رقته وروعته، والثانية “اللغمن الأخضر” وهو أقرب ما يكون للفوتشيني الايطالية، وهو عبارة عن عجين مخلوط بالخضروات ويكتسب اللون الأخضر، وتأكلها مع بعض اللحم والخضار كأروع ما يكون، وبالمناسبة، القوم هنا يزعمون بأن ماركو بولو عندما زارهم أخذ وجبة “اللغمن” هذه إلى إيطاليا، وتحولت لل”الاسباجيتي” الايطالية المعروفة، وفعلا هما قريبان من بعضهما.

يبقى أنني أنصح لمن يريد الذهاب الى تلك المنطقة أن يذهب في فصل الربيع، فمنطقة خوارزم تكون جنة فعلاً وقتها، ولكنها باردة جداً في الشتاء وحارة ملتهبة في الصيف، لأن بجوارها صحراء، يقصدها أهلنا وأحبتنا من الإمارات في فصل الربيع للقنص وممارسة هواية الصيد، فتلك المنطقة زاخرة بالغزلان والأرانب والثعالب والطيور، يستمتع بها هواة الصيد.

كان وداعي للمدينة أسطورياً، إذ فوجئت ببهلول يرقص أمامنا، ويفرقع -بمهارة عجيبة- بحجارة بيديه، كجزء من تراثهم القديم، كان الملوك يتسلّون بأمثاله، وغادرتهم وابتسامة كبيرة على وجهي، ويقين بداخلي أني سأعود لهذا السحر مرات ومرات.

خوارزم مدينة عجائب و تاريخ، وشهرزاد لا تزال تروي لليوم قصصها هناك.

مبادروة ملتزمون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى