أمِيرُ رُوَاق . بقلم الاعلامي وكاتب صحافي: عبدالعزيز قاسم . azizkasem@

أمِيرُ رُوَاق . بقلم الاعلامي وكاتب صحافي: عبدالعزيز قاسم . azizkasem@
مقالتي اليوم من كتابي الجديد الذي أعكف على كتابته هذه الأيام: “سليمان وعبدالعزيز القاسم.. قِصةُ كِفاح ومَلحمة إخاء” الذي أقوم به وفاءً وتقديرًا للعمّين –يرحمهما الله– حيث كان العم عبدالعزيز بمثابة والد لي، ومحبةً للأسرة الكبيرة التي تعود أرومتها لقبيلة بني خالد العريقة..
تسمّرت رجلاه الصغيرتان، وغارتا في تلك الرمال الساخنة على مشارف بلدة بريدة من جهة جنوبها، وَصَلها مشيًا على قدميه في ضحى يومٍ حزينٍ من عام 1284هـ – 1868م،ومكث على حاله تلك لا يَعي، لِمَا عليه من همٍّ وكَدرٍ جَثما على صدره الصغير، ونظر بعينيهالمغرورقين بالدموع إلى جهة الشرق، يراقب الشمس التي تشتدُّ حرارتها، وهي تتصاعدفي كبد السماء الزرقاء الخالية من أية سحابة قد تكون بارقة أمل له.
يرفع رأسه الصغير، ويصعِّد نظره إلى الأفق الخاوي أمامه كما روحه الشاحبة اللحظة، لتزيد تلك الرمضاء والمنظر الكئيب الأمرَ على نفسه المنكسرةِ ألمًا، فالخيبة تملؤه بالكامل، ومرارة الفشل تسوطه، وقد حار في أمره كيف يفعل، وقد اسوّدت الدنيا بالكامل أمامه.
جلس الفتى –ذو الاثني عشر عامًا– على أعلى النفود، يرمي ببصره تجاه تلك المدينة التي نشأ بها، وقد ترك في بريدة أختين صغيرتين وأخًا أصغر منه، وتمزقت نفسه من صِفرِ يديه،وعدم وجود مؤونةٍ يُسعف بها إخوته الأيتام هناك، حيث رحل والداه وهو في سنٍّ صغيرة، تاركين له مسؤولية إخوته، الذين ساء بهم الحال، وسَغبت بهم الحياة، ونفد ما بأيديهم، مااضطره إلى أن يمتهن مِهنًا عدة في سنِّه الصغيرة تلك ليعول إخوته،
حتى استقرّ به الحال أن يعمل بـ“الجَازَه” أي بدون جُعلٍ مالي، بل يعمل مقابل طعامهاليومي فقط، وكانت مهنته تلك: “سَنْي الماء” في مزرعة تابعة لـ“السديري” بالقرب من بريدة، أي إنه يقف يومه كله على السانية ليُخرج الماء من البئر عبر الجِمال، ولا يأخذ مقابل عمله إلا طعامًا يسيرًا ليومه ذاك فقط، يوفر منها ما استطاع لإخوته.
لم يملك الفتى الصغير عبدالله القاسم في هيئته الرثَّة تلك، إلا أن يتوسّد “الرَمْثَه” وهو شجرٌ ينبت في تلك الرمال وتأكله الإبل، وقد سرَّحه ربُّ عمله صباح يومه الكئيب هذا، لأن ابن عمٍّ له أتاه وقال إنه أحقُّ بهذا العمل منه لقرابة الدم، فلم يملك صاحب المزرعة إلا أن يخبره بهذا الخبر الصاعقة، ما اضطر الفتى القاسم إلى أن يلتحف فجيعته، ويمضي عن المزرعة –التي كانت خارج بريدة– مشيًا على قدميه، حاملًا معه همَّ الدنيا كلها، حتى وصل إلى هذه النفود، ويقف على كثيبها حائر الفكر، عاجز التصرف أمام هول ما هو عليه من فاقة ومسؤولية إعالة إخوته الصغار، وكان الكثيب الذي جلس عليه يطلُّ على خِبّ “رُوَاق“.
ودَّ ذلك الفتى أن الأرض ابتلعته وألا يعود إلى أختيه الصغيرتين وأخيه بلا شيء في يده لهم، وذهل عن نفسه من ألم الخيبة ومرارة ما هو عليه، ولم يملك إلا أن “يَصِيح” أي يبكي بكاءً مريرًا على الحال التي انتهى إليها،
ودخل في نوبة بكاء من القهر والكمد الذي هو عليه، وقلة حيلته وهو في تلك السنالصغيرة، وقد عزم ألا يعود إلى منزلهم البسيط ببريدة، وأن يبيت خارجًا حتى يفتح الله عليه.
اتجه يجأر باكيًا لله وشاكيًا له حالته التي انتهى إليها، وإذا به فجأة ينشط –كما حكى لاحقًا لأبنائه– وفُتحت أمامه كُوَّةٌ من أمل، وقد زايلته عوارض الخيبة والكمد، وانقلب حاله وأشرق وجهه، وقد تذكر وصيةً والده له قبل أن يموت؛ أن يذهب إلى صديقٍ له بسوق بريدة إن دالت بهم الدنيا وضاق عليهم الحال، وكأنما رأف الله بحال ذلك الفتى المنكسر، وانبجس اسم الرجل من ذاكرته في خضم بكائه المرير والألم الممضّ الذي كان عليه،
وتذكر اسم صديق والده الذي تاه مع شدائد ما مرّ به من أحداث في عمره الصغير ذاك، فأزمع أن يسير من وقته إلى البلدة يبحث عن صديق والده.
وصل الفتى عبدالله القاسم بريدة قبيل الظهيرة، واتجه مباشرة إلى السوق يسأل عن رجل اسمه “ابن غصن“، ولكن سوق بريدة كان يغلق في هذا الوقت للقيلولة في تلك الأزمنة البعيدة، فسأل بعض من في السوق عنه، فإذا به أحد التجار الأثرياء المعروفين، ووصفوا له بيته،
فاتجه من فوره إليه، وكانت لحظة لقائه بصديق والده النبيل منعطف حياته الأكبر، وتغيّرت أحواله بعدها، وكان لها تأثيرها الذي امتد حتى إلى أبنائه وذريته من بعده، كما سيأتي في تفاصيل هذا الفصل الأول من الكتاب.
بعد ثلاثين عامًا من هذه الحادثة، كان هذا الفتى عبدالله القاسم أميرًا لخِبِّ “رواق” الذي بكى حاله على كثيبه، وبات من أثرياء بريدة، حيث ملك “رعيَّتين” من الإبل، الرعيَّة الواحدة تقدَّر بسبعين بعيرًا، وكانت مزرعته الشاسعة التي ملكها في “رُواق” مقصد المسافرين إلى بريدة والخارجين عنها، حيث نال شرف ضيافتهم يوميًا طيلة حياته وبعد مماته كذلك، وبات اسمه لامعًا في كل تلك الأرجاء، وقصد مزرعته الأمراء وكبار القوم فيالقصيم، وتلك قصة أخرى تقرؤونها في هذا الفصل.
التاريخ يُعلمنا الكثير الكثير، وكيف هي النفوس الكبيرة تكدُّ حتى تصل، وأية أهوال يلاقونها، وكيف تصنع عندما تعتلي القمة.
تغريدات الاعلامي : عبدالعزيز قاسم
1
مقالتي اليوم من كتابي الجديد الذي أعكف على كتابته هذه الأيام: "سليمان وعبدالعزيز القاسم.. قصة كفاح وملحمة إخاء" الذي أقوم به وفاءً للعمّين -يرحمهما الله- حيث كان العم عبدالعزيز بمثابة والد لي، ومحبةً للأسرة التي تعود أرومتها لقبيلة بني خالد العريقة..وهي بعنوان:أمِيرُ رُوَاق
— عبدالعزيز قاسم (@azizkasem) November 14, 2021