المُلهِمة هِيلة اللاحِم . بقلم: عبدالعزيز قاسم، اعلامي وكاتب صحفي
المُلهِمة هِيلة اللاحِم
بقلم: عبدالعزيز قاسم
اعلامي وكاتب صحفي
مقالتي اليوم من كتابي الجديد الذي أعكف على كتابته هذه الأيام: “سليمان وعبدالعزيزالقاسم.. قِصةُ كِفاح ومَلحمة إخاء” الذي أقوم به وفاءً وتقديرًا ومحبةً..
اتجهتْ بكلِّ الشوق إلى مسجد “رُواق” كي تجد سَلوتها في الصلاة ومناجاة الله، فلتوِّهاأنهتْ واجباتها التي أنهكتها تجاه المزرعة الكبيرة في خَبِّ “رُواق” ببلدة “بريدة“، وشمس“القايلة” اشتدت عليهم ضحى ذلك اليوم من عام (1352 هـ – 1933م)، وذهبت –كعادةيومية– إلى “البركة” تستحمُّ، وهي التي ترفَضُّ من العَرق، بعد عناء شديد من ساعاتمنهكة بالعمل،
إذ قامت من بعد صلاة الفجر –وبقية نسوة عائلة القاسم– لحصد البرسيم لإطعام الـ40 بقرة وغيرها من “الدَبَشْ” والغنم، ومن ثمَّ حلبها، وخَضّ الحليب لتحويله إلى لبن، ومن ثمَّفصْل الزبد عنها، لتتجه بعدها إلى جلب الحطب من أطراف المزرعة –التي تحوي 500 نخلة– التابعة لزوجها أمير “رُواق” عبدالله القاسم الذي توفي منذ عامٍ تقريبًا، والذييشاركه شقيقه حمد في تلك المزرعة الكبيرة.
حياة النسوة قاسية وقتذاك، حيث لا تكتفي هيلة اللاحم، وبقية نساء العائلة بذلك، فهنيقمن بتعبئة و“كَنْزِ” التمر، والواجب اليومي الأهمُّ كان في اعداد الطعام للضيوف الذين لايتوقفون أبدًا عن قصد مضافتهم، وقد أسَّس زوجها عادة ورسًّخها كقيمة عائلية توارثوهافي فتح بيوتهم للضيوف، ونيل شرف خدمتهم وضيافتهم بشكل يومي،
فتقوم النساء بعجن الخبز و“قرص” العيش من القمح أو الشعير، ومن ثَمَّ طبخ القرصانوالجريش وبقية ما يُقدَّم في ذلك الوقت.
ترمَّلت “دِحمَة“، وكان هذا لقبها في الأسرة، وهي في عمر 24 ربيعًا، وتيتَّم ابناها سليمانذو العشر سنوات وعبدالعزيز ذو الثماني سنوات، تتابعهما وهما عند الشيخ عبداللهالبطي، اللذين كانا يدرسان عنده في مسجد “رُوَاق” الهجاء وقراءة القرآن الكريم،
ولأنها سليلة أسرة اشتهرت بحب العلم والتدين، ومن أحد أعرق بيوت بلدة “الشماسية“؛انطرحت بين يدَي الله سجودًا تستخيره فيما اعتمل في نفسها، وما استقرَّ في قلبها، ومااستشرفت به المستقبل، حيالها وابنيها الصغيرين، وقد ألهمت أن زيادة تعليمهما،والانطلاق بهما إلى فضاءات أرحب في العمل، بعيدًا عن هذه الفلاحة والخَبِّ هو القرارالأصوب.
مع بواكير الصباح، وشروق شمس ذلك اليوم، انفلتت مع ابنيها الصغيرين إلى “بريدة“،بعد أن استأذنت من كبير العائلة وقتها، وأخذت بعض قسمهم من الإرث، وساقت البقرةالتي من نصيبها معهم، ومضت –في تحدٍّ لا تُقدم عليه سوى النسوة الجسورات– لا تلويعلى شيء سوى تعليم ابنيها، وقد ارتسم على وجهها إرادة الأم التي وضعت هدفًا أمامها،وستحققه مهما كلف الأمر، ولتحوِّل بقرار رحيلها وابنيها مسار مستقبلهما بالكامل، منخَبٍّ وقرية صغيرة إلى بلدة أكبر، والانطلاق في أمكنة أرحب وأوسع في عملهما.
النور يشقُّ السماء وبدأت ملامح الأمكنة تبدو وهم يتهادون في طريقهم إلى بريدة، وإذعمَّ الضياء لترتسم ابتسامة متفائلة على وجهها أن الله سينير طريقها ولن يضيعها،ودخلت بريدة متلفعة توكلها ورجاءها من خالقها.
كانت امرأة جسورًا، قوية الإرادة ماضية العزم، وكرَّرت تلك المغامرة مرتين، غيَّرتا مسارالعائلة ونقلتاها إلى أمداء أبعد، عبر رحيل ابنيها إلى الرياض، وتاليًا وبعد سنوات عديدةرحيلها هي وابنها عبدالعزيز إلى مكة المكرمة، فكانت مُلهمة وشجاعة فعلًا باتخاذها أودعمها تلك القرارات، إن استحضرنا المرأة ودورها في تلكم الأزمنة البعيدة ونحن نتحدثعن تسعين عامًا خلت.
قطنتْ هيلة اللاحم في منزلٍ متواضعٍ ببلدة بريدة بجوار مسجد “الحميدي” لتُلحق ابنيهابدرس الشيخ محمد صالح المطوع، ويحكي ابنها عبدالعزيز القاسم –يرحمه الله– فيتسجيلٍ له عن تلك الفترة، فيقول:
“كانتْ الوالدة تمسك يدينا من جَيَّتنا من رُواق إلى بريدة، حيث كان حِرْوَة سليمان أخوي12، وأنا حوالي العشر، تِقَّومنا نصلي الفجر، حنا وياهَا، بمسجد (الحميدي) المطوع،نصلي الفجر ونقعد عند (القْرَايَّهْ) إلين تطلع الشمس“، وهذه (القراية) المقصود بها الدرس،وما يتبعه من استماع له والمواعظ وتدارس القرآن، حتى طلوع الشمس.
يكمل ابنها عبدالعزيز القاسم: “هاكَ اليوم، المسجد فيه شِيبان، فهد العلي الرشوديومحمد الصالح المطوع، وفيه ناسٍ كثيرون، ما يطلعون إلين يصلون الإشراق بالمسجد،والوالدة ما تطلِّعنا إلا مصلِّين الشروق“، ويقول إنها كانت تصلي الفجر هناك في باحةالمسجد، وتستمع –ما أمكنها– إلى دروس الذكر تلك، حتى تصلي معهم صلاة الشروق،وتقفل بهما إلى البيت.
تخيلوا المشهد، امرأةٌ شابةٌ تمسك بيدي ابنيها، تتهادى بهما للمسجد وقت الغَلس، وتمكثهناك خارجه تنتظرهما، وتصلي وحيدة إلا من إرادتها وتصميمها، وتظل لوقت صلاةالإشراق تنتظرهما، وتأخذ ابنيها بعد حضورهما درس المطوِّع؛ لا تملك –والحال التيوصفت– إلا أن تتيقن وتجزم أنها امرأة عظيمة التدين والثقة بربها ألا يضيعها وابنيها.
خصَصتُ هذا الفصل في الكتاب لها، وأكملت ولادة وطفولة ويفاعة الأخوين سليمانوعبدالعزيز عبر قصة أمهما هيلة، الملهمة الحقيقية لهما، ومَن لها الفضل –بعد الله– فيماوصلا إليه وأحفادها تاليًا، والخير الذي عليه الأسرتان اليوم.
في كل عائلة امرأة، يصطفيها الله بالحكمة والعزيمة وسداد الرأي ورؤية المستقبل، ولربماتقف خلف قرارٍ جريءٍ؛ يغيُّر مسارَ ومستقبلَ وحالَ العائلة، وهو ما كان مع المُلهمة هيلةاللاحم.
تغريدات الاعلامي :
عبدالعزيز قاسم
اعلامي وكاتب صحفي
1
مقالتي اليوم من كتابي الجديد الذي أعكف على كتابته هذه الأيام:
"سليمان وعبدالعزيز القاسم.. قِصةُ كِفاح ومَلحمة إخاء" الذي أقوم به وفاءً وتقديرًا ومحبةً للأسرة.. وهي بعنوان:المُلهِمة هِيلة اللاحِم
— عبدالعزيز قاسم (@azizkasem) November 22, 2021