هجرةُ الأخوين إلى الرياض . azizkasem@ بقلم الاعلامي وكاتب صحفي: عبدالعزيز قاسم
هجرةُ الأخوين إلى الرياض
بقلم : عبدالعزيز قاسم
اعلامي وكاتب صحفي
مقالتي اليوم من كتابي الجديد الذي أعكف على كتابته هذه الأيام: “سليمان وعبدالعزيز القاسم..
قِصةُ كِفاح ومَلحمة إخاء” يحكي ظروف خروج الأخوين من القصيم إلى الرياض قبل ست وسبعين عامًا تقريبًا .
يمضي بكلِّ الخوفِ والترقُّب والحياء، متعثرًا في خطوِه وهو يتجه إلى سوق “الْجْرِدِهْ” فيقلب بريدة، يتبعه أخوه عبدالعزيز الذي يصغره بعامين، كان في الثانية والعشرين منعمره آنذاك، يحمل كلُّ منهما “بقْشَة” وضعا فيهما بعض متعلقاتهما في ذلك الصباح الخريفي من عام 1365 هـ – 1945 م.
ما زال التوتر والالتفات –بخوفٍ وتوجُّسٍ– يُمنةً ويُسرةً وللخلف يسيطران على سليمانالقاسم، الذي لم يكد يستقر في سيارة “اللوري” الخشب تلك، وقد سمع نداء سائقه يجلجل في ذلك السوق العتيق: “الريااااااض.. اللي يبي الرياض“، حتى تنفس الصعداء، إذ خشي أن يراه التاجر “الحصان” المستدين منه، فيمنعه أن يُقدم على مغامرة حياته وأخاهبالرحيل إلى “العارض” التي أسمعت منطقة نجد كلها نهضتها الاقتصادية الجديدة، ماجعلها كعبة لقاصديها من الذين أتوها مُقفرين إلا من أحلامهم بالكسب والثراء.
تتهادى بهم السيارة الوحيدة التي تذهب بالمسافرين إلى الرياض، فلم تك إلا عربة ركابٍ واحدة في اليوم تمضي بتلك الأزمنة البعيدة من المدينة الوادعة حاضرة القصيم تلك، والتي تقطع الطريق في ستة أيام كي تصل إلى العاصمة المتوثبة للمملكة الفتية التياكتملت من 14 عامًا فقط، ليحدَّق سليمان في أخيه الأصغر الممتلئ عزيمة ونشاطًا وتحديًا، ويشرئب بعدها بعنقه إلى السماء يسأل الله تعالى العون في قادم أيامهما التي لا يدريان ما الذي يخبئه لهما القدر، وأية حياة تنتظرهما هناك بمدينة الحلم!
السائق يغذّ بسيارته التي تُشوِّش بهدير محركاتها صمتَ تلك الصحراء القاحلة، ويسرح سليمان بخياله بعيدًا، إلى خَبِّ “رُواق” حيث ولد ونشأ، ويسطع أمامه وجه والده الوقور عبدالله الذي كان أميرها، وتبتسم برضا وحَدبٍ والدته العظيمة هيلة اللاحم التي دعمت فكرة رحيل ابنيها لطلب الرزق، وشدَّت من عزمهما، وجاسَ بخياله بعيدًا هناك في طفولته حيث المسجد الجنوبي من “رُواق“، وترى ذلك الطفل ذا الخمس سنوات متربعًا أمام معلمه عبدالله البطي، يقرأ بكل الثقة والنبوغ القرآنَ الكريم بالنظر.
ترتسم ملامح زهوٍ على وجهه بدَّدت بعض قلقه، ليعود بخياله وهو ينظر لنفسه في تلك السن الصغيرة متباهيًا، إذ تجاوز أقرانه، ووضعه شيخه في المجموعة المتفوقة، وتنتقلالصورة مباشرة من “رُوَاق” إلى مسجد “الحميدي” بـ“وِسْعَة” بريدة، ويرى شيخه محمدالصالح المطوع يفعل ذات الأمر معه، وقد تفرَّس فيه أن يكون من طلبة العلم المتميزين، إذ آتاه الله اقبالًا وذكاءً فطريًا واستيعابًا وحبًا للعلوم الشرعية، ما جعله كذلك أن يتقدم عندالشيخ صالح الوهيبي، ليتقن الحساب والكتابة عنده، ويكمل حفظ القرآن الكريم في ذلك الوقت الذي كان عزيزًا على أحدٍ من أسنانه أن يختم المصحف إلا من القلة، ليواصل سليمان ذلك التحصيل الشرعي، ويدرس متون كتب فقهية والأصول الثلاثة على أيدي مشايخ بريدة؛ أهَّلته لأن يلقي الدروس والمواعظ في المساجد.
أطلق آهةً حرَّى اعتملت في صدره وهو سادرٌ في تلكم الذكريات، فما زالت بقايا ما عاشه صباح اليوم من خوف، وما يَهمُّه حيال ما ينتظره بالرياض؛ تُطوِّحان بنفسيته المرهفة وقلبه الرقيق، وهو البكَّاءُ إن قرأ القرآن، سريعُ الدمعةِ إن سمع الموعظة، ليرسل بصره بين ركاب السيارة الذين يتململون تارة –وقد حُشروا في “صَنْدَقة” ذلك “اللوري“- و يتقافزون أخرى بذلك الطريق الترابي المُمهَّد ببدائية، بينما الغبار يتصاعد في ذلكم الفضاء الهادئبفعل احتكاك عجلات السيارة بالأرض.
نقَّل بصره بين ركاب السيارة، التي بدأت تأخذ مكان الإبل في السفر من قبل سنوات قليلة فقط، وميَّز أكثريتهم، إذ بريدة في ذاك الوقت بلدة صغيرة، وأهلها يعرفون بعضهم بعضًا،ليُشيح برأسه إلى جهة الطريق الذي لا يرى فيه سوى صُفرة رمالٍ باهتة تمتد إلى مالانهاية وتتقاطع في الأفق مع السماء الخريفية الشاحبة، وهو –وبقية الركب– في تلك“الحمًالية” البائسة التي تمخر هذه الصحراء.
يتمتم بآيات القرآن الكريم الذي يحفظه، ويجوس أخرى في ذكرياته، ولكنه هنا لم يذهبً بعيدًا، بل في أيامه الفارطات القلائل التي أغلق فيها دكانه بسوق بريدة نهائيًا، وقد خسر فيه ما استثمره وأخوه الأصغر. ذلك الدكان الذي حثتهما والدتهما و دعمتهما على فتحه، ولم تدر تلك اللاحم العظيمة أن خِلَال ولدها سليمان وخصاله من التسامح وطيبة القلب وسخاء النفس، ليست مطلوبة كثيرًا لمن يمتهن البيع بالآجل، غالب طريقة البيع يومئذ، وهو ما جعله يخسر، وقتما تخلف أغلب الدائنين “الطِرْقِية” عن سداد ما يشترون، وبعض قراباتهم كذلك، فقرَّر هو وأخوه إغلاق الدكان، والرحيل نحو الرياض.
توقفت السيارة العتيقة التي تصاعد دخان محركها، معلنة إضرابها عن العمل، فما راج منالسيارات وقتذاك بالمنطقة هي من مخلفات الحرب العالمية الثانية كثيرة العطب، لينصرفالسائق الساخط لإصلاحها، ويفرح المسافرون بالخروج من ذلك القبر الخشبي المفتوح الذي حُشروا فيه، ويفترش سليمان الأرض ويطلب من أخيه أن يخرج طعامهما من“البِقْشَة“، ولم تكد عيناه تقعان على “القُرصَان” الذي أعدَّته زوجه هيلة الصبيحي التيخلَّفها هناك، لأن أسرتها كانت رافضة أن تذهب ابنتها –ككثيرٍ من أُسَر القصيم– إلىالمجهول، حتى ترقرقت دمعاتٌ عزيزاتٌ على وجنتيه، وما أصعب تلك اللآلئ المتهاملات منأعين الرجال!
إذ تذكر سليمان تلك الزوج الصبور وهي تطلب منه بحياء “خَرْجِية” لابنتهاالرضيع التي تحبو أمامه بثياب مهترئة، كانت هي الوحيدة لديها، وأعرض عن طلب زوجه لقلة ما لديه من مال، وانصرف عنهما –ووالدته هيلة– مفوضًا أمرهما إلى الله، وحامدًا على الحال الذي وصل إليه، وقد أوقف والده قبل أن يموت نصف مُلك “رُواق” لله تعالى مع أخيه حمد، الذي ناصفهم الجزء المتبقي، وهم الأسرة الكبيرة، فلم يأته وأخاه من الورث إلا القليل، فالمزرعة تشبع البطن ولكنها لا توفِّر المال.
اتفق سليمان مع أخيه الصغير ألا يذهبا إلى “حلَّة القصمان“، ذلك الحي الجديد بالرياض، كما كان معتادًا لكل أبناء إقليم القصيم أن يذهبوا له حيث عزوتهم وجماعتهم، وقرَّرا الانفراد بما فعل بعض “بلدياتهما” عن تلك الحلة الشهيرة التي كتبت اسمها في تاريخ أسر القصيم في العاصمة الناشئة.
ما إن لاحت مباني الطين القديمة التي ظهرت خلفها عدة مبانٍ حديثة متباينة الشكل، حتى عرف المسافرون بوصولهم إلى مدينة الرياض، بيد أن الأخوين سليمان وعبدالعزيز انقلب حالهما بمجرد رؤيتهما المدينة، فقد تغلغلت نسائم الطمأنينة في نفسي هما، وأشرق وجهاهما المغبَّران من السفر، وانقلب ذلك القلق والتوجس والخوف إلى تحدٍّ ويقين وتفاؤل، وإيمانٍ عميقٍ أن الله معهما، وأن انطلاقتهما الحقيقية نحو المجد والثراء ستكون من هنا، وهو ما حدث، فلم يمض أقل من عام حتى كان بيت “القاسم” مضافة شهيرة لكلأبناء العائلة والجماعة في الرياض، وفي بضع سنوات قلائل أصبحا من أشهر تجارالأقمشة على مستوى المنطقة، وتعقبها سنوات عشر فقط، ليكونا من أثرياء تلك المرحلة.
سليمان وعبدالعزيز القاسم أنموذجان لآلاف من رجال حقبة التأسيس، من الذين عانوا كثيرًا وصبروا، وفتح الله عليهم بعدها!
تغريدات الاعلامي وكاتب صحفي : عبدالعزيز قاسم
1
مقالتي اليوم من كتابي الجديد الذي أعكف على كتابته هذه الأيام: "سليمان وعبدالعزيز القاسم.. قِصةُ كِفاح ومَلحمة إخاء" يحكي ظروف خروج الأخوين من القصيم إلى الرياض قبل ست وسبعين عامًا تقريبًا وهي بعنوان:هجرة إلى الرياض
هنا مقتطفات لوصف الطريق بين بريدة والرياض ذاك الوقت.
— عبدالعزيز قاسم (@azizkasem) December 10, 2021