قماشة الربدي… زِفافٌ في القصيم . بقلم الإعلامي وكاتب صحافي: عبدالعزيز قاسم
قماشة الربدي… زِفافٌ في القصيم .
بقلم الإعلامي وكاتب صحافي: عبدالعزيز قاسم
لمن أرسل إليَّ يسأل –وهم كُثُر– أجيب بأنه لا علاقة نسب بيني وبين العمَّين؛ بطلَي الكتابسوى تشابه الاسم، ولكونهما في مقام والدي –يرحمهم الله جميعًا– والكتاب أكتبه وفاءًلهما ومحبَّةً للأسرة فقط.
مقالتي اليوم من كتابي الجديد، الذي أكاد أنتهي منه: “سليمان وعبدالعزيز القاسم… قِصَّةُ كِفاح ومَلحمة إخاء“، وهنا قصة زواج قبل 60 عامًا تقريبًا في القصيم، لوالدةصديقي الغالي يوسف القاسم .
تجري الطفلة “قماشة” بين أحواض المزرعة في “المِتِينِيَات” (شمال بريدة)، تلك المزرعةالشهيرة التي تمتلكها عائلتها “الربدي“، ذات الأرومة العريقة هناك بالقصيم، وتلحق بهاأترابها بين ذلكم النخل الباسق: نورة ولولوة المحمد، ولولوة العبدالرحمن، ولولوةالعبدالمنعم، وقد انتهين من لِعب “الهَامة“، وتقافزن في لعبة “أم خطوط“، وذهبن بخيالهنَّمع “السِبَاحِيْنْ“، وتفوَّقت عليهنَّ في لعبة “الدِبْقْ“؛ لينفلتنَّ للجري بين دروب تلك المزرعةالكبيرة.
كان المنظر ساحرًا عصر ذلك اليوم، وقد ذهبت الشمس رويدًا رويدًا تطفلُ نحو مغيبها،فتتسلَّل أشعتها الذهبية عبر سَعفات النخل الطوال التي تتراقص أطرافها ببطء مع نسائمالأصيل، وتُكمل تلك الصورة مكائن “البلاكستون” التي على الآبار؛ لتتموسق أصواتهاالمميزة مع هدوء وسحر المكان وخضرته؛ ليَشدُهَ تمامًا –من كان في قلب المزرعة وقتذاك– ويتوقَّف، إلا من تأمُّل منظر وجمال “المتينيات” وروعتها، ويسربل ذاك المشهد الأخَّاذ –الذينَصِف– الزقزقات العالية المتواصلة للعصافير والطيور التي آبت، واستكنَّتْ في أعشاشها،تتلو صلواتِ المساء.
الطفلة (ذات السنوات التسع) لمَّا تزل تلهو مع لِدَّاتها من بنات عمومتها، سادرةً غير آبهةٍلنداءات والدتها هيلة الربدي التي كانت تُلقب بـ“الطُولَا” لطول قامتها، وقد عَرفتْ فيابنتها الأولى “قماشة” فرط الحركة والنشاط؛ ما جعلتها ذاتَ ضجرٍ تدعو عليها وتقول: *”الله يِجيب لِكْ الرجل المنتصفْ عمره، ولا يِنام من صِلاة الليل“*. تدعو لابنتها برجلٍ متدينٍفي أواسط عمره كي يستطيع ترويض حركتها ونشاطها.
كانت والدتها –وقتها– بين زوجات الإخوة الخمسة الأشقَّاء: هيلة الرشودي، ونورةالحليسي، ونورة الفوزان، ولطيفة الشعيبي، في دكَّة مخصَّصة لشرب الشاي وتناولالأوراق الخضراء الطويلة التي يُخرجونها طازجة من أرض المزرعة، كما عادة نساء القصيمفي الضحويات والأصائل، فالمزرعة يعمل بها 14 عاملًا، ولم تك بحاجة لهؤلاء النسوة.
كنَّ يتداولن –بكل الفخر والرضا– في مجلسهنَّ ذاك ما قمن به من عملٍ خرافي، عندما زارجلالة الملك سعود –يرحمه الله– العائلة، وأقام له عميد الأسرة الوجيه الكبير محمد الربديوليمة عشاء فاخرة بالمزرعة، سمعت بها القصيم كلُّها، أثناء زيارة جلالته الإقليم عام1379هـ – 1959م، وخصَّ هاته الأسرة العريقة بالعشاء عندها، وقد شرب القهوة قبلهاعند عليّ الفهد الرشودي، وكذلك يحيى الشريدة، وعبدالعزيز الإبراهيم الحمزة، وقدانتفضت “المتينيات” رجالًا ونساءً وقتذاك، وذبحت العائلة ثمانين خروفًا وجملًا،
واستقدمت الطبَّاخين المَهَرة من الرياض، وحتَّى “الكيكات” –التي لم تُعهد كثيرًا بالقصيموقتها– أحضروها من العاصمة، ورفدت بعض عوائل القصيم الكبيرة، بواسطة خالهمناصر روَّاف الروَّاف، العائلة بأربع سيارات نقل من الفواكه والمعلَّبات والحلويات التيجلبوها أيضًا من الرياض، خصيصًا لهذه المناسبة الكبيرة؛ فالوجيه الكبير محمد الربدي،إذ خصَّه الملك سعود، وحلَّ ضيفًا عنده؛ إنما هو واجهة القصيم كلِّها أمام جلالته.
بعدها بأشهر، انتقل عبدالله الربدي –والد “قماشة“- بعائلته إلى داخل “بريدة” في بيتجدِّه “محمد الربدي“، وذاك الجدُّ النبيل
حكاية أخرى؛ إذ تواتر الحديث عن تديُّنه وورعه، وكرم يده وسخاء نفسه، وبيته الواسعالذي لا يكاد يخلو من الضيوف أبدًا، ولك أن تتصوَّر أن المطبخ فقط –قبل مئة عام – مساحته 7 في 20 مترًا، واشتهر ذلك البيت الطيني بالقصيم كلِّها بـ“مَطَقَّة الرَبادا“؛ وهيأقرب للجَرس، ذهبية اللون، جلبها الجدُّ العقيلي من الشام، وكانت أحدوثة “بريدة” وقتها،إلا أن قلب الطفلة “قماشة” كان في مزرعة “المتينيات“، وهي التي لا تكاد تصدِّق أن يأتيأحدٌ من عمومتها، حتى تتعلَّق –وأخوها الصغير صالح– بتلك السيارة العائدة، وهيتصيح: *”علِّموا أمّي إني مِشيتْ مع عمّي الحميدي للمتينيات“*؛ شوقًا إلى أجواء المزرعةالتي وصفناها، وحنينًا لتلك النشأة شبه الأرستقراطية هناك.
في عام 1384هـ – 1964م، و“قماشة” تخطو للتوِّ في عامها الرابع عشر، ولم تكتملتقاسيم جسمها وملامح أنوثتها، فقد كانت أقرب للطفلة منها للفتاة؛ ترسلها العائلة إلىبيت أخوالها بـ“ربيشة” عند جدَّتها من أمها حصَّة الربدي، وساقوا لها حُججًا من مثلانشغالهم بـ“كَنْز” التمر، وابتدعوا لها ألف “عِلثة“؛ أي عذر –بما حكت لنا– لتذهب وتمكثضَجِرة هناك، وبعد عشرة أيام تخبرها زوجة خالها عبدالله، هيلة الرشودي بأوان عودتهااليوم لعائلتها، فتفرح أيَّما فرح، بيد أن الرشودي تقول لها بضرورة أن تُغسِّلها وتُهيِّئَها،كي يراها أهلها في أبهى حلَّة؛ لتوافق من فورها.
وإذ اقتربت، وجدُّها العقيلي سليمان الربدي الذي اصطحبها، من موقع بيتهم؛ لتُصدمبالدُّنيا تموج هناك، والحركة على قدمٍ وساق، والقدور الكثيرة على النار خارج فناء البيت،وتستعيد لنا الخالة قماشة الصورة، وتقول: *”جِينا لبيت أهلي، ومنْ يُوم وصلنا، وإلىبيت أهلي خبّه (حركة)، وإلى العالم من الصبح وهي تستعد، اللي يفرش، واللي يطبخ منالعصر، وأنا أقول بنفسي: وِشْ عندهم أهلي على هالخبّه؟“*، ودخلتِ الْبيت، والدَّهشةُالكاملة تملأ نفسها.
أخذَتها من عند الباب عمَّتُها مضاوي، والعمَّة في المجتمع النجدي –غالبًا– لها منزلة الأب،الذي –إن غاب– كانت الكلمة كلمتها، فأخذَتها لغرفتها التي فوجئت بأنها تغيَّرت عليها،وتحكي لنا وتقول: *”عمّتي مضاوي مسكتن من إيدي، تقول: يالله قُوه لغرفتك، مَنابناسيته، حاطين لي يِجي ثلاث مخدات جدد، عشان يرفعنن، وشفت الشِناط، وشفتالجهاز، وهاكَ الفراش اللي ترقى عليه رقي، والجلسة اللي محطوطة لي كأنها كنب، عشاناقعد عليه، حاطته عمّتي مضاوي مثل الكُوشة الحين“*.
هنا أخبرتها الأسرة بأنها العروس، لتُلْجِمها المفاجأة وتظل في مكانها جامدةً ذاهلةً، لتفيقمن صدمتها وهي بين أيدي نساء العائلة التي تتلقفها، فأختها حصة تقيس عليهاالفستان الفاخر، والأخرى تُلبسها الفستان “الكلوش” السماوي الفاتح الذي صُمِّم علىفستان أم كلثوم الشائع، إثر هبَّة الموضة المصرية على مجتمعات الجزيرة العربية، وتصفلنا الخالة قماشة ما حدث لها: *”من يوم جابوا لي الفستان ألبسه، قلت اشلون أبي أقدرأشيل هالفستان من كبره! مالي صدر، ولا لي شيء، صغيرة. الفستان شارياته عمّاتي منحدا بنات الأمراء، لونه سماوي مشجّر، بُوه شكّ من جهتين. ويحطون لي هالمخدّات أجلسعليهن، وتجي عمتي نورة وتلبسن هاك الفستان، وفوقه هاك العَبَات الجُوخ، والمِسفَعالأبيض مثل الطرحه، توّه الناس بادين يتطورون، وتلبسن نشرة ذهب، مِيبْ هامة عادية،تلبس على الراس، وتغطي الراس والخدود، نادرة، كله زمرد وذهب وفصوص لولو، شاريتهأمي حصةمع الفستان، وحباّت رمان (رمامين)، كل جديلة بطرفهَ ثلاث رمانات ذهب، تقلمحاقين، ولبسنن الخواتم والذهب، وعمّاتي هن اللي هاك اليوم قايمات بكل شيءبالعرس“*.
والدتها هيلة لم تأتها ولم ترها، والتي افتقدتها ابنتها؛ فقد كانت الأمُّ في عالمٍ آخر، يستبدُّبها الوَلعُ لفراقِ أول خِلفتها، وتذرف الدموع الغِزار وَجدًا عليها، وتحكي الخالة قماشة عنحال أمها: *” قالت لي حصة الدحيم بنت عمي، عن أمي، إننا قمنا نرقص بالعرس عندأمك، نِبيهَ تَسلى، وتقوم ترقص معنا، عشان تنسى شوي، زملة لرُوحتك (مهمومةٌ لذهابك)،إنهَ قايلة لنا قبل: أبَي أرقصْ بعرس قماشة.. وإنه –الكلام لقماشة– تقولي أمي عقب: واللهإني يا بنيتي، خفت على عقلي وعلى عيني تروح، من صياحٍ (بكاءٍ) صحته عليك بزواجك،ما قَويتْ أشوفك“*.
وفجأة تركوها وحدها بالغرفة؛ وإذ بأخيها إبراهيم ذي الأعوام الاثني عشر يدخل عليها،ممسكًا بيد رجل غريب بالكامل عنها، لا تعرف من هو، ولا هيئته، ولا عائلته، ليبادرهاشقيقها الصغير بأن هذا زوجك عبدالعزيز القاسم، ويتركه معها وينصرف.
في المجتمع الحضري بالقصيم –ذلك الوقت وقبله وبعده لسنوات الطفرة– لا تخبر –غالبًا– العائلة الفتاة بعريسها، ولا موعد زفافها، وتُفاجأ –كما خالتي العزيزة قماشة الربدي– وربما السبب ظنّ رجل البيت أنه أدرى بمصلحة ابنته، حيث في تلك الأزمنة البعيدة محيطما تتحرُّك به الفتاة ضيُّقٌ جدًّا، لا يجعلها تعي أين مصلحتها، هكذا قيل لي والله أعلم.
كان معيارُ قبول الصهر عند عائلات القصيم الحضرية نَسَبَ الرجل بالدرجة الأولى، وثانيًاملاءته المالية؛ لذلك عندما تقدَّم العمُّ عبدالعزيز القاسم لعائلة الربدي يخطب ابنتهمقماشة؛ قبِلوا به. رغم أنها ستكون زوجة ثانية، وفارِق السن كبير بينهما؛ إذ كان فيالأربعين من عمره وقتها، ورغم أنها ستتغرَّب عنهم وتعيش في مكة المكرمة بعيدًا عنأسرتها، فإنهم قَبِلوا به؛ لأنَّ الأسرتين الكريمتين “الربدي” و“القاسم” تعودان لقبيلة “بنيخالد” العريقة.
في صباح اليوم التالي؛ طلب عريسها أن تتهيَّأ للسفر، والعادة أن يبقى الرجل مع عروسهفي بيت عائلتها نفسِه لمدة أسبوع كامل، بيد أنه كان عَجِلًا وعلى سفر، فمضت معه، وركبتفي حوض السيارة ووجدت فيه: نورة السلامة زوجة العمِّ سليمان، وطرفة القاسم؛ والغالبفي تلك الأوقات أن يأتي للعرس من قبل العريس الرجال، وقلّة فقط من نساء عائلته، وكلتاالمرأتين أنهت أيام “الماجب” عند أهليهما في “رُواق“، وهي أربعين يومًا بعد الولادة، وثَمَّةثالثة هي “الربعية” (المؤنسة) موضي الغضية، فأهل العروس يستأجرون امرأة تذهب معابنتهم لكي تؤنِّسها وهي في عالمها الجديد الغريب عليها، ومضت السيارة بهم إلىالرياض.
هناك بالعاصمة الفتيَّة؛ أقام العمُّ سليمان للعروس الصغيرة مناسبة “الرَحيل“، والتقتالعروس حينها نساءَ عائلة زوجها “القاسم“، الذي يخبرها –من غده– بسفره إلى مكَّةالمكرمة، كي يُعلِم زوجته الأولى حصة الصبيحي بهذه الزيجة التي لم تعرف عنها لهذاالوقت؛ إذ لم تك هواتف ولا غيرها، وعاد العمُّ عبدالعزيز بعد شهرٍ كاملٍ إلى الرياض؛ لأخذعروسه الصغيرة إلى مكَّة، وسافر معها بالطَّائرة، وأثناء الطريق استبدَّتْ بها الظنونوالهواجس كيف ستلقى “ضرَّتها“، وحالما وصلت إلى مكَّة؛ إذا بالزوجة الأولى ترحِّب بها،وقد ألبست أبناءها أبهى ملابسهم، كي يستقبلوا خالتهم الجديدة.
تحكي الخالة قماشة لابنها يوسف القاسم ذلك الاستقبال، وتقول: *” أول ما وصلنا مكةجايين من الرياض، أنا وأبوك، دخلنا البيت عقب العشا، وإلا أمك حصة مُولِّمة لنا العشاء،وملبّسة عيالهَ، واستقبلونا، وتعشينا سوا الله يجزاهَ الجنة“*.
الخالة حصة لم تكتفِ بذلك الاستقبال الأخوي الرائع، بل زادت عليه أنها تنازلت عن ليلتها،رحمةً منها لهذه العروس الغضَّة المتغرِّبة؛ فتحكي الخالة قماشة: *”عقب العشاء؛ المفروضهي ليلتها، قالت حصة: يا أبو عبدالله، رُحْ نَمْ مع الربدية، ما تجسر يَا حُول صغيرة،والبيت والغرفة جديدة عليهَ، وبالدور الخامس لحالهَ، رِحْ نمْ معه الليلة“*.
كان موقفًا عظيمًا من الخالة حصة الصبيحي، لم أملك إلا احترامها والدعاء لها، وتبجيلهاعلى هذه الروح والتربية والإيمان، وبدورها، وبعد قرابة ستين عامًا إلا قليلًا، حفظت لهاذاك الموقف النبيل الخالة قماشة، لتحدثنا اليوم، وتقول: *”الله يجزاهَ الجنة، ما ناب ناسيةلهَ ها الكلمة، ومن هاك اليوم وهاك الساعة إلى اليوم؛ وحِنَّا والحمد لله أكثر من خَوات، ومانعدهَ لنا إلا أمّ، الله يطول بعمرهَ، ويخليهَ للجميع“*.
بما قالت الخالة الغالية قماشة –التي أُعِدُّها بدوري كوالدتي– بقيتا كأختين، منذ ذلكاللقاء الأول قبل ستين عامًا تقريبًا، تحدبان على بعضهما، وتتعاملان بكل الرُّقي والرحمةوالاحترام بينهما، وعاشتا ملحمة زوجهما عبدالعزيز مع أخيه الأكبر سليمان في الكفاح،وها هما اليوم تتهاديَان في مرحلة الهرم، تنظران للماضي الذي عاشاه بكل حبٍّ وإخوَّة،وتدعوان لأبنائهما أن يُسدِّدَهم الله، ويجمع قلوبهم، ويختطون نهج آبائهم وأجدادهم العظام.
تغريدات الإعلامي وكاتب صحافي: عبدالعزيز قاسم
مقالتي الجديدة اليوم، التي هي بعنوان:
قماشة الربدي.. زفاف في القصيم
والتي تحكي قصة زفاف قبل ٦٠ عاما تقريبا في بريدة، بنصها الكامل، هنا على هذا الرابط :https://t.co/V5FrthSUt2
— عبدالعزيز قاسم (@azizkasem) December 30, 2021